https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

باب سبتة … معبر الموت الذي يُحرج الدولة

نسمات البرد كانت تلفح الوجوه من الحين للآخر، الشمس على وشك الإفراج عن خيوطها، عقارب الساعة متبثة على السادسة والنصف صباحا، كل من كان على الجبل المقابل لمعبر “طارخال” وعلى جنباته يعيش حالة ترقب لصافرة الإنطلاق كأنك في ملعب لمشاهدة مباراة  “الريكبي”، واللاعبات لسن سوى نساء وجدن أنفسهن مضطرات لكراء ظهورهن لتهريب أطنان البضائع من مدينة سبتة المحتلة إلى الفنيدق المدينة المجاورة لها.

قصصهن رغم اختلاف تفاصيلها لكن دوافعها واحدة “البحث عن لقمة العيش”، فصولها لا تحتاج إلى أن تروى يكفي أن تنظر إلى ملامحهن والتجاعيد التي زحفت مبكرا على وجههن  لترى الضعف والقهر والمعاناة في مهنة اعتقدن أنهن بامتهانها يحفظن كرامتهن فإذا بها تجعلهن يعشن الويلات وتصبح أكثر أمانيهن سلك المعبر والحفاظ على حياتهن.

آلاف من النساء يقصدن معبر “الديوانة” أو باب سبتة، منهن من يبتن هناك في العراء حتى يتمكن من الحجز لأنفسهن مكانا ضمن الصفوف الأولية للدخول إلى سبتة ، ومنهن من يقصدن المعبر على الساعة الخامسة صباحا والبعض الآخر بعد الفجر مباشرة، تعلق إحدى السيدات اللائي التقيناهن هناك ساخرة  أن هذا المعبر خلق من “نار جهنم” وأنه على الله أن يدخلهن الجنة دون حساب لما عايشناه هنا من عذاب ومهانة وألم ومعاناة.

أمام الباب الحديدي الذي يحرسه رجال الأمن المغاربة  يقف طابور طويل من النساء، ينتظرن ساعة الدخول، كل تركيزهن يكون على كيفية الوصول الى الجهة المقابلة دون ضرر، ما إن يفتح الباب حتى يركضن بكل قوتهن كأنك تشاهد عرض لمصارعة الثيران في الشوارع الإسبانية، عند تجاوزهن للمعبر الثاني الذي يحرصه الإسبان يكن بذلك أنهين المرحلة الأولى  لبداية مرحلة التحميل وحزم السلع على ظهورهن وفي العربات التي منحت إليهن مؤخرا بعد حالات الوفاة في المعبر بسبب سقوط النساء اللواتي يكن محملات بعشرات الكيلوغرامات وتعرضهن للدهس من طرف زميلاتهن.

كرامة مهدورة!

إذا كانت أجسادهن ألفت حمل الأثقال التي قد تصل في بعض الأحيان إلى 100 كلوغراما مقابل 150 درهما وأصبحت هذه العملية جزءا لا يتجزء من حياتهن اليومية إلا أن أنفسهن لم تستطع حمل الإهانة التي يتجرعنها كل يوم من طرف العاملين بالجمارك وعناصر الأمن، وذلك حسب ما وثقت الكاميرات وأكدته عدد من التقارير الدولية. “فاطمة” إمرأة خمسينية تعمل في المعبر  منذ أزيد من عشرين سنة أم لثلاثة أطفال، مطلقة، تنحدر من مدينة القصر الكبير، تحكي قصة معاناتها هي وزميلاتها مع ما يتعرضن له من سب وقذف وضرب من طرف عناصر الأمن قائلة : “لا يكفي ما نعيشه من قهر لتوفير لقمة العيش بل علينا أن نصبر على السباب والكلام النابي واتهامنا في شرفنا من الذين من المفروض فيهم أن يشرفوا على حمايتنا”؛ تغالب دموعها ثم تضيف “نحن هنا حمالات مثل هذه العربة لكن على الأقل هذه العربة تمشي بكرامة لكننا نحن لا كرامة لنا ولا نشعر بإنسانيتنا ، وحين ننتفض في وجه جلادنا نتعرض للضرب والتنكيل وفي بعض الأحيان المنع من الدخول لإخراج السلع”.

تصمت فاطمة لتبدأ صديقتها التي كانت ترافقها والتي كانت تتحدث بانفعال وحزن باديين  “الإسبان بعد الحوادث الأخيرة أصبحوا يتعاملون معنا بلباقة ولم نعد نتعرض للضرب من طرفهم، لكن ما إن نتجاوز الباب التي يحرسه الإسبان وندخل المنطقة المغربية حتى نشعر أننا في الجحيم”، وزادت وهي تحكي تفاصيل “تلذذ” الأمن باخضاعهن للتعذيب النفسي قبل الجسدي “هنا يعتمدون جعلنا نشعر أننا مجرد حشرات لا كرامة لنا ولا حقوق، لم اتذكر أنني أمضيت يوما بدون أن أتعرض للإهانات والسب والقذف والضرب”.

لا تجد فاطمة وصديقتها تفسير لما يتعرضن له من إهانات بسبب الفوضى المفترضة، حيث تؤكدان أنه في المنطقة التابعة للأسبان يعبرن بشكل منتظم دون مشاكل أو إزدحام أو تدافع، وتضيفان أن عناصر الأمن المغاربة هم من يتسببون في تلك الفوضى وذلك التدافع، بمجاراتهم للبعض وإعتراض سبيل البعض الآخر.

غير بعيد عن سيدتين كانت هناك إمرأة أخرى يبدو أنها في بداية عقدها السابع، تحاول جر كيس بضاعتها لكنها رغم بدلها لمجهود كبير  تفشل في ذلك، تأخرها في نقل البضاعة دفع أحد أفراد القوات المساعدة الذين يقفون على شريط المعبر للصراخ عليها وحثها على أن تغادر المكان،  السيدة ذات اللكنة الجبلية ردت عليه وصوتها مخنوق داخلها “ابني أنا لنجر فيها الصحة والو”، فرد عليها بشكل فض “مسوقيش حيدي من الطريق”، المشهد كان صادما، السيدة بعدما لم يبدي هذا الأمني أي إحساس بالشقفة اتجاهها استجمعت أنفاسها وبدأت تجر في ذلك الكيس بحزم كأنها تؤدي آخر مهمة في حياتها بتفان قبل مغادرة العالم، لم تبادر أي من النساء اللواتي يمررن من أمامها على مساعدتها، الكل يفكر في نفسه “أنا أو لا أحد”. اقتربت من السيدة حاولت مساعدتها قدر الإمكان رغم نظرات رجال الأمن التي تحمل الوعيد، استفسرتها عن السبب الذي يجعل مسنة مثلها تواضب على المجيء للمعبر الذي يعتمد على القوة البدنية أولا وقبل كل شيء وهو ما لا يتوفر فيها، قالت والدموع تنهمر على خدودها كأنها حمما بركانية، أنها تفضل أن تعيش الإهانات وتكسب قوت يومها بكرامة على أن تمد يدها للناس لطلب المساعدة أو أن تموت جوعا، وتضيف “أعيش لوحدي أولادي حالتهم المادية ضعيفة وكلهم مدمنون لا أعول عليهم لسد جوعي، فقررت أن اعمل إلى آخر نفس”، عمل المسنة في المعبر حديث لم يمض عليها سنتين فقبلها كانت تعمل في المنازل لكن مع تقدمها في السن لم تعد تجد لها مكانا في هذه المهنة.

هذه المهنة التي تهدر كرامة المرأة المغربية بشكل يومي تدر على مدينة سبتة أكثر من 400 مليون يورو في السنة، هو ما دفع الشركات متعددة الجنسيات إلى تحقيق منافع اقتصادية كبيرة؛ إذ إنها تستخدم هؤلاء النساء لتصدير هذه البضائع وهي توفر الضرائب بسبب عدم وجود جمارك بين سبتة والمغرب” وذلك وفق الأرقام التي كشفت عنه جمعية حقوق الإنسان بالأندلس.

هاجس الموت

بعد تسجيل أزيد من عشر وفيات في صفوف النساء اللواتي يعملن في معبر “الديوانة” خلال سنة واحدة، أصبح الطريق  إلى المعبر بالنسبة لهؤلاء النسوة اللواتي يعلن  حوالي 30 ألف أسرة وفق معطيات جمعية حقوق الإنسان بالأندلس كأنه طريق إلى الموت والزوال،  أغلب من تحدثنا إليهن أكدن أنهن يشعرن كل صباح أنهن قادمات إلى حتفهن وأن كل يوم يخرجن فيه سالمات هو ولادة جديدة بالنسبة إليهن.

“لو مت هنا سيتشرد أطفالي أنا المعيل الوحيد لهم” تقول سعاد، وتضيف المتحدثة التي لم تبرح عقدها الثالث لكن علامات التقدم في السن كانت بادية على بشرتها البيضاء “كل صباح حين أغادر بيتي أودع أطفالي الأربعة وكأني لن أعود، وهذا أكثر ما يخيفني أن أموت وأتركهم لوحدهم يواجهون هذه الحياة”، “نحن في هذه المهنة لا يعترف بنا القانون ولا حقوق لدينا عيشنا أو مماتنا واحد فمثلنا كثر وموت واحدة منا لن يوقف هذه التجارة التي يعيش منها الآلاف”.

سيدة أخرى التقيناها بعد خروجها من المعبر، عبرت عن ارتياحها بعد خروجها سالمة ولم تزهق روحها تحت الأقدام، وتفسر في حديثها ل”أخبار اليوم”؛ أن أسباب الازدحام والحوادث التي تحدث ليس بكثرة الحمالات بل بسبب سوء تنظيم رجال السلطة، موضحة أن “هناك مئات النساء اللواتي يقضين الليل في المعبر حتى يتمكن من الدخول أولا إلى المدينة المحتلة لكن الفئة التي تلتحق صباحا بعد إطلاق صافرة البداية تركض وتدهس الذين يسبقونهن دون شفقة ورحمة وذلك يكون تحت أعين السلطة وفي بعض الأحيان بإيعاز منهم” على حد قول المتحدثة. وهو نفس الطرح الذي أكدته الجمعية الحقوقية للاندلس والتي أكدت في آخر تقرير لها أن المهربون يتركون مبالغ كبيرة من المال للشرطة المغربية في شكل رشاوى. وبخلاف ما قالته المتحدثة السابقة، تحمل رشيدة مسؤولية الفوضى وعمليات الدهس لزميلاتها، إذ تقول بعد أن اتخذت لنفسها مكان تلتقف فيه أنفاسها، إن المسؤولات من ما حدث وعن ما يتعرضن له من إهانات من طرف رجال السلطة سببه النساء الحمالات “ممنظمنشي وكل وحدة كتبغي غير راسا هذشي علاش كنتعرضو للضرب وأيضا للسب”، وتضيف “كان بإمكانهم ينقذوا نساء لماتو لكن حتى وحدة ما فكرت فالاخرى كلا كتفكر فراسا وهوما لخنقوهم وزطمو عليهم”.

حكومة مدينة سبتة بعد الحوادث الأخيرة حاولت إعادة تنظيم عملية العبور بتنسيق مع نظيرتها المغربية، حيث قسمت الأيام الأربعة التي كانت تتم فيها عملية التهريب بين النساء والرجال فخصصت يومين للنساء ويومين للرجال، وذلك تفاديا للازدحام، كما أنها خصصت حسب الصحافة الإسبانية أربعة آلاف رخصة في اليوم فقط مما يعني تقليص عدد الحمالات والحمالين من 10 آلاف كان يعبرون المعبر بشكل يومي إلى 4 آلاف، الحكومة الإسبانية بررت ذلك بتفادي الازدحام والحوادث التي تقع، كما أنها منعت الحمالات من تحميل البضائع على ظهورهن ومنحهن عربات لتحميل البضائع لكن بالرغم من أن تطبيق هذا القانون انطلق قبل أزيد من شهرين إلا أنه من خلال معاينتنا لازالت أغلب النساء يحملن البضائع على ظهورهن.

لا ثقة في مبادرات الدولة

مثل باقي المغاربة تعيش النساء “الحمالات” أزمة اللا ثقة في مؤسسة الدولة المغربية، إذ عبر أغلب من تحدثنا إليهن أنهن لا يراهنن على نتائج اللجنة الاستطلاعية التي قام بها النواب البرلمانيين للمعبر قبل أيام، معتبرين أن تلك الخطوة هي للتسويق الإعلامي فقط أما وضعهن فهو معروف لا يحتاج لمهمة استطلاعية بقدر ما يحتاج إلى حلول عملية.

“أين كانوا البرلمانيون حين كنا نموت ونهان” تقول سعاد، وتضيف “للتو تذكروا أن هناك بشر يعيش في هذا المعبر وهذه الظروف، ويحتاجون المساعدة”، تصمت لبرهة، وقبل أن تستأنف الحديث تسبقها زميلتها “نحن لم نطالب لا بتوفير العمل أو السكن كل ما نطالب به هو أن نعمل بكرامة، نحن راضيات بقدرنا وما كتبه علينا الله، لكننا لا نستطيع تحمل ما يكتبه علينا البشر”؛ وتسترسل “قولي لهم نحن لا نحتاج تقريركم حنا محتاجين ليدافع على كرامتنا وحقوقنا في العمل بشكل إنساني”.

لكن لفاطمة رأي آخر في الموضوع حيث أكدت أن عدد من النساء لو كن وجدن فرصة عمل آخرى لما كن قدمن إلى هنا ليتجرعن الإهانة والمعاملة الحاطة من الكرامة الإنسانية، وزادت “إذا كانت هذه المهمة ستجعلهم يشيدون لنا معامل نعمل فيها فنحن مستعدات للذهاب إليها”، ثم تعود وتقول “صعب أن أضع يدي على خذي وانتظر الدولة لتوفر لي عمل، فقبل مجيئي للمعبر كنت عاطلة عن العمل ولا أجد ما أسد به رمق أبنائي لكن الدولة لم تقدم لي شيء غير غلاء الفواتير والكتب المدرسية والمعيشة”.

إمرأة أخرى تحدثنا اليها اعتبرت أنه إذا كانت المبادرة صادرة عن الحكومة الإسبانية كن وثقن بها وانتظن ما ساتسفر عنه لكنها لا تثق في مبادرات الدولة، حيث أوضحت أنهن حين تعرضن لتلك المآسي لم تقف إلى جانبهن الحكومة المغربية ولم تجد حلول لمأساتهن وهو ما جعل حوادث الوفاة تتكرر مرات ومرات، “ربما نحن لسنا مواطنات أو الدولة لا تعتبرنا” تقول المتحدثة.

رأي واحد حول “باب سبتة … معبر الموت الذي يُحرج الدولة”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.