كنال تطوان / بقلم : الزهرة حمودان
قراءة في التجربة الزجلية الأنثوية بمدينة تطوان
تقديم:
في البداية ، لا بد من الإشارة إلى كون الحقل الزجلي ببلادنا رغم ريادته التاريخية في الإبداع القولي ، و عمقه االتعبيري الضارب في الأصالة . و رغم النقلة النوعية التي عرفها في الأزمنة الحديثة ، في حاجة الى فك العزلة عن عقليات ـ ممارسة كانت أو متلقية ـ ما زالت تجهل المكانة الفنية و الجمالية لقصيدة الزجل ، التي لا تقل عن الشعر صورا و تخييلا و بلاغة شعرية.
و عن الكتابة النسائية بصفة عامة ، يقول الشاعر و الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة: ” إن ما تكتبه المرأة يدخل في صميم الكينونة الأنثوية و ماهية النوع ، و أن تسونامي الشعر النسائي مكسب للشعرية “. و إننا إذ نسوق هذه الشهادة ، نكاد نجزم أن تجربة الابداع النسائي في فن الزجل ، تدخل أيضا ضمن هذا السياق.
* * * * * * *
من خلال دراستنا لثلاث تجارب إبداعية نسوية ، في مجال الزجل بمدينة تطوان ، و جدنا أنها راكمت رصيدا فنيا، يمكن أن يوفر مادة لدراسة نقدية ، في مشهد حركة إبداعية صاعدة ، رجت بركة الزجل الذكورية ،و أفرزت طفرة ، غيرت موازين القصيدة الزجلية بمدينة تطوان بصفة خاصة ، وفي خريطة الزجل المغربي بعامة.
و يعتبرالمتن الزجلي ، الذي راكمته كل من الشاعرات : نبيلة المصباحي و جميلة العلوي المريبطو و كريمة العاقل، بلورة حقيقية ، للتجربة الزجلية ببلادنا ، بفعل أنثوي ، ينحت لنفسه موقعا داخل صيرورة الزجل المغربي، بحكم أن الزجل ببلادنا فن يتطور، و أن دائرة الابداع فيه اتسعت، باستقطابها أكاديميين و مثقفين. .
و بهذا تكون المرأة قد أسهمت في الابداع ضمن فن الزجل ، و أثرت حضوره الباذخ ببلادنا ، حين ابتكرت مكونات فنية جديدة لقصيدة الزجل ، أغنت جماليته ، باستلهامها أشكالا تعبيرية بصيغة الأنثى ، و اختراقها لمضامين ، ثاوية في تلافيف الذات الأنثوية ، لم تطرق من قبل. إنهن ببساطة شاعرات نزلن أرض فن من فنون القول ، يغزلن زجلا ، قصائده عرائس لذات الأنثى ، يضمخن حروفه بعطر لغة الجذور ، المستقطرة من عناقيد الياسمين ، و زهر النارنج الحاني فوق أسيجة فناني الغرام.
* * * * * * *
لا أحد ينكر أن الساحة الثقافية اليوم، أصبحت هي حلبة الصراع الحضاري، كما أن القوى الناعمة هي المراهن عليها الآن في أي تغيير، بالاضافة الى الجهد الفلسفي ، الذي أشرع للشعر بوابته الخاصة ، حين أعلن : ” أن هناك قوى تتبدى في الأشعار لا تمر عبر دوائر المعرفة المغلقة ” .
هذه الإمكانات ، نجدها حاضرة بقوة عند الزجالات الثلاث.
التجربة الأولـى :
تنفرد الشاعرة نبيلة المصباحي بالملمح الثالث. ففي كل قصيدة من قصائدها. تفاجئك إشراقة من عمق ذات أنثى ، واعية بفرديتها و حريتها و بجذورها التاريخية التطاونية و المغربية. تومض لك بوهج يوقد من قوة معرفية لا تعرفها ” دوائر المعرفة المغلقة ” كما أسلفت الإشارة. فقصائدها ـ حسب قراءتنا ـ تعكس وعيا بالوجود الإنساني ، منبثق من القلب و الروح ، من خلال تعابير و انزياحات لغوية من إبداعها الخاص . و إن كانت تستدعي اللغة المحكية وصيغها، و التراث و حمولته، كي تكسب قصائدها، هويتها الأصيلة. لغتها ملتهبة بلظى ذات لاهثة ، تبحث عن وجود قيمي راق ، يحتمي بسياقات مفاهيمية إنسانية/اجتماعية أصيلة، و يمتح من حقول الحكمة و التجربة الانسانية العامة ، و أحيانا تقترب من شفوف التصوف. فكل ما تحتاجه الصورة هو ومضة من الروح ، كما يقولون .
تغوص الشاعرة نبيلة المصباحي ، بفنية و مقدرة في بحور المعاني ، عبر الأبعاد المشتركة ما بين المحلي التطاوني و المرجع العام للدارجة المغربية من تراث و حكم و أمثال… لتتوج قصائدها قلائد للقيم الإنسانية، كقيمة الصداقة مثلا في قصيدتها: ” الصديق “
كما توظف رؤيتها للعالم و تفاعلها الاجتماعي ، من خلال رصدها لاختلالات المجتمع ، و لبعض النماذج البشرية ، التي تكرس تلك الاختلالات ، فتصوغ بذلك قصائد لاذعة ، تضع أصبعها داخل الجرح ، لا تحابي و لا تداري ، و ذلك كما هو الشأن في قصيدتي : ” سباك المقال” و ” حسادك يا ليام”
التجربة الثانية :
بالنسبة للتجربة النسوية الثانية ، التي أشعت بحضورها ، ساحة شعر الزجل التطاوني و المغربي فهي “سيدة البيت التطاوني ” ، ذلك الحيز الذي وصفه القديس و الكاتب الإيطالي دون بوسكو بكونه ” يمتد من الأرض إلى السماء “. إنها الشاعرة جميلة العلوي المريبطو . تمجد هذه الشاعرة الأنثى من خلال قصيدتها ” فرحانة بحالي مرا ” ، كما تكرس ابتهاجا أنثويا محضا بالأمومة في قصيدتها ” يسيمنة” و بقصيدة ” الزوجة الأنثى” ، ترفع الحجب عن أسرار أنثوية ، لأول مرة ، بمقاربة أنثى ، أعتبرها الأنثى الجديدة ، التي امتلكت حقها الكامل في التعبير.
و هي تغترف من خبايا و أسرار البيت التطاوني ، بحس الشاعرة ،و بعين الملم بفن العيش لدى ساكنة تطوان ، بكل مكوناته الحضارية و التاريخية. تنفرد الشاعرة بقدرتها على التقاط التفاصيل الصغيرة في الحياة العادية لأهالي مدينتها، ـ إلى جانب تمجيدها ذات الأنثى ـ انطلاقا من استحضار الذاكرة الطفولية في قصيدتي ” لعبة بيسو” و ” غدا العيد ” ، إلى طقوس الأفراح و المواسم و المناسبات الاجتماعية. في قصائد مثل ” الختان ” ـ ” الحضور ” ـ ” الخرجة دالعروسة ” ـ ” الصف دالهنا ” ، و غيرها . ساعدها على ذلك ملكتها على إدراك الصور و أبعادها البصرية بصفتها فنانة تشكيلية ، كما أن إلمامها بالتراث الحضاري لمدينتها ، و توظيفها له جماليا في قصائدها ، جعلها تؤصل لنسق شعري/زجلي أنثوي يتفاعل بين الذات و الآخر موروثا كان أو حبيبا ، يبصمه حيز مكاني له خصوصيته. فالمكان يكثف الزمان، و البيت الكوني الفسيح ، يصبح إمكانية لكل الأحلام ،و يقود الشاعرة إلى مناطق من الوجود غير محددة ، تمارس فيها بوحها الأنثوي ، المتمرد على كل الأسيجة . تتملكها الدهشة من الوجود فيتدفق إبداعها، قصائد زجلية حرة طليقة، ناطقة بكل الصيغ الممكنة و المحتملة. حيث جسد المكان في قصائد الشاعرة، دعائم استقرار الكائن الإنساني ـ الكامن فيها ـ المتمرس بفعل الوجود الصاخب.
قصائد ” مهيرز” و” القويرية ” و” المرأة المفتونة” رحلة في ذاكرة المحكي الشعبي التطاوني ، مبنية بتعابير مغرقة في المحلية التي لا تلغي جسور التواصل مع الآخر، في آن واحد . بينما في قصيدة ” عترة ” تتجلى القدرة على البوح الأنثوي ، الذي يصر على أحقيته في حرية التعبير.
أوقدت الشاعرة جميلة العلوي المريبطو، شموع حدوسها الفنية والاجتماعية ، و تغلغلت في التراث المحلي ، فنسجت بفنية مائزة ، قصائد زجلية لغتها من قاموس العامية المحلية بمدينة تطوان ، الصرفة. و بهذا تصبح قصائد جميلة العلوي المريبطو مرجعا هاما للباحثين حول طبيعة المجتمع التطاوني و خصوصيته الثقافية و الفنية ، وتتحول إلى شهادات لا تحملها الوثائق .
التجربة الثالثة :
يقال إن الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من كونه ظاهراتية العقل. و التجربة الأنثوية الثالثة في رحلة استقرائنا هذه ، تنطبق عليها هذه المقولة . ويتعلق الأمر بفراشة الزجل المغربي ، الإنسانة التي تتنفس شعرا ، الزجالة كريمة العاقل.
كلما توغلت في قصائد هذه الشاعرة ، ـ رغم حداثة سنها ـ ترسخت لديك ـ بما لا يقبل الشك ـ أن شعر الزجل أصبح اليوم يمثل اختيارا لشكل تعبيري يلبي حاجة ذاتية لدى الشاعر، ليظل ما تراكمه التجارب ، هو من يحكي عن نفسه، و يحفر مواقع تميزه ، و يؤسس لمنتوج إبداعي يستحق الاحتفاء به.
في تجربتي جميلة العلوي المريبطو و كريمة العاقل ، يعلن المكان سلطته ، و تبصم المدينة باسمها أعمالهما ، فعند الأولى نجد قصيدة ” المرأة التطاونية ” . و عند الثانية نجد قصيدة ” بنت السلطان”، لتنطلق بعد ذلك ، كل واحدة منهما ، في عوالمها الشعرية الخاصة. لكن دائما داخل البيت التطاوني الممتد بين السماء و الأرض.
هكذا تتكئ الشاعرة كريمة ـ هي الأخرى ـ على الحكاية الشعبية ، و تضفي عليها رداء حلمها الوردي، حينما توظف ، خرافة ” حكوزة ” ، و تربطها بمتخيل عن حلم بشريك الحياة المنتظر ، و مواصفاته . بينما تعانق قصيدة : ” تجربتك يا قلبي” تلك العلاقة الجدلية و الأزلية بين الرجل و المرأة ، لكن بجرأة الأنثى التي امتلكت صك نصيبها من القدرة على البوح الصريح ، دون أن تضطر للتخفي وراء أستار الوجل ،أ و التحايل على غضب سدنة الطابوهات.
و في قصيدتي : ” مولات الحايك ” و ” رمية المغزل ” ، يتبدى مرة أخرى البعد الأنثوي ، من خلال دلالات المعاني في زجل كريمة العاقل. فبالإضافة إلى عنواني القصيدتين ، يتركب البناء الشعري للقصيدتين عبرصور بلاغية مكثفة الإيحاءات اللصيقة بالأنثى ، مقدودة من لغة انزياحية ، من ترويض الشاعرة الخاص.
لتمتد حقول اشتغال الشاعرة ، على مدى تحليق متخيلها الابداعي ، و من رياحينها تقتطف للصداقة قصيدة ، و للعائلة قصيدة ، و للعشق قصائد..إنه حراك إبداع زجلي أنثوي دافق و رقيق و مرهف.
و استنادا لما سبق ، نجمل خصائص الصحوة الابداعية بالذات الأنثوية ، لدى الزجالات الثلاث في النقط التالية :
1 ـ التصالح مع الذات و الآخر ، مما جعل من مجموع قصائدهن ، إبداعا غير مأزوم ، بقدر ما هو إبداع واع و متبصر .
2 ـ جرأة التعبير عن انفعالات ذات الأنثى ، مع جرأة توظيف معجم العشق بكل مرادفاته .
3 ـ البوح بالمشاعر إلى الحبيب المتخيل ، و حرية اختيار البؤر التعبيرية الأكثر استجابة للتجربة العشقية، موضوع القصيدة.
4 ـ تصوير عوالم نسوية ، خاصة بالأنثى ، و تقديمها للقارئ في قالب فني ، بتعبيرات أنثوية من صميم الذات الأنثوية
5 ـ الاعتماد على التجريب في قصيدة الزجل لغة و بناء ،
6 ـ استثمارمستواهن التعليمي العالي ، سواء في مجال اللغة أو المواضيع المتناولة ، و حتى في بناء صورهن التخييلية.
* * * * * * *
إن التراث ليس هو كل العملية الإبداعية ، بقدر ما هو جزء منها ، لذا نجد الشاعرات الثلاث قد تجاوزن ذلك ، إلى قراءة خاصة بكل واحدة منهن ، لواقعهن الذاتي ، مستثمرات إشارات التراث ، حين فككن رموزه ، مدركات للخلفية المرجعية المرتبطة بالناس و الأرض و الوجدان .
فجرت فارسات الزجل التطاوني الثلاث ، المستويات الابداعية للغة العامية لدى المغاربة ، كل حسب تميزه الابداعي . تغلغلت جميلة في جنان الطبيعة التطاونية ، و القاموس الاجتماعي للمدينة بكل تلويناته المناسباتية و الطقوسية. و غاصت نبيلة في الأبعاد المشتركة ما بين المحلي التطاوني و المرجع العام للدارجة المغربية من تراث و حكم و أمثال…بينما سافرت الشاعرة الرقيقة نحو همس لغوي ينصت للذات المبدعة ، و يترجم أحاسيسها بلغة تستفيد ، إلى حد كبير من المعجم الرومانسي .