https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

دروس من وفاة المرحوم باها

-باحث في المشهد السياسي

المتتبع للواقعة الحزينة التي ألمت بالأستاذ عبد الله باها، قد يقف مشدودا إلى حجم التضامن والأسى الذي لحق بالوسط المغربي جراء فقدان رجل يجمع الجميع على نبله ورصانته وتواضعه، حيث ليمكن القول بأن الصفة الرسمية التي يحملها الشخص باعتباره “وزير دولة” في حكومة البلد، قد توارت إلى الخلف لتترك مكانها، لما كان يتحلى به الأستاذ باها من فضائل وحسن سلوك، وهو مؤشر هـــام لطريقة قياس وترتيب الأولويات عند رجل الشارع المغربي، حيث غالبا ما يتم تفضيل دماثة الأخلاق والسلوك على باقي الخصال الأخرى، وهو الأمر الذي يؤكده حتى بنكيران نفسه في بعض كلماته التوجيهية لوزراء حزبه، إذ لم يكن يتردد في دعوتهم إلى الحفاظ على نظافة اليد وحسن التعامل والابتعاد عن المال الحرام، ربما بحكم الطابع المحافظ لحكومته أو لإدراكه بأن الحفاظ على أمر من هذا القبيل يحتل حيزا هاما في طريقة تقييم رجل الشارع لمن أعطيت له فرصة تدبير شؤون حياته وأحواله.

من جهة أخرى فلقد كشفت جنازة الراحل عن شيء جميل يحصل عندنا هنا في المغرب وخصوصا بالنسبة للطبقة السياسية، حيث غالبا ما يتم وضع تشنجات السياسة ومشداتها جانبا ليتم تقديم واجب التضامن والعزاء ومحاولة اقتسام محنة اللحظة والتخفيف عنها قدر الإمكان، وهو سلوك ينم عن قدر من التعايش بين مختلف الفرقاء السياسيين ويؤشر إلى أن هناك خطوطا حمراء نحمد الله أن الطبقة السياسية عندنا لا تسمح لنفسها بتجاوزها.

وإذا كانت جنازة المرحوم قد عرفت حضورا لكل الأطياف وحتى تواجد لبعض الشخصيات اليهودية، فإن تقديم الأمين العام لحزب الاستقلال شباط لواجب العزاء في الرجل، يندرج تقريبا في نفس المنحى، إذ رغم كل ما قاله ويقوله في حق بنكيران وصحبه، إلا أنه قد وجد نفسه وهو يترجل لتقديم التعازي، في سلوك لا يمكن إلا الإشادة به، رغم أن شباط كان سيبقى معزولا وشاذا عن سلوك المغاربة لو أنه اختار أن ينهج سلوكا مغاير، وربما سيكون عليه أن يشكر بحرارة “المرحوم باها” لأن هذا الأخير قد أخرجه من عنق الزجاجة، إذ من خلال عنترياته وبأسلوبه في الضرب من هنا هناك انتهى به المطاف لكي يعزل نفسه بشكل نهائي، وهو ما جعل الإعلام ينسج حكايات وصلت حتى إلى التلميح عن غضبة ملكية على شباط إثر “الفوضى” التي كان قد اقترفها في قبة البرلمان، حين ضرب عرض الحائط كل الكلام التوجيهي الذي كان قد تفضل به ملك البلاد وهو يتحدث عن الترفع عن المزايدات والصراعات السياسوية.

على أن أمرا هاما قد يستوقف كل متابع للتعليقات التي واكبت موت المرحوم، وإذا كانت هذه التعليقات في جزء منها تعبر عن مقدار الصدمة النفسية التي ألمت بجزء كبير من المتابعين لما جرى، وقد تتضمن في ثناياها نوعا من “الشمتة” التي يحس بها المرء إثر انتزاع الفاجعة لشخصين عزيزين في ظرف شهر واحد تقريبا وفي نفس المكان، إلا أن العديدين يبدو بأنهم لا يريدون الاعتقاد في التوصيف الذي يقدم لهم في طريقة حصول الفاجعة، بالنسبة إليهم هناك دوما أمورا يتم تدبيرها في الخفاء وهناك مؤامرة تحاك بشكل من الأشكال، المهم ليس هناك تصديقا للرواية الرسمية، وهو ما يدعو كثيرا إلى التأمل والبحث عميقا عن سر غياب الثقة والتوجس في كل ما يريد “المخزن” أو “الإدارة” الترويج له، وهو ما يعكس بأن الإدارة ربما لم تتصالح بما فيه الكفاية مع المواطن، إذ رغم المجهودات التي بذلت سواء من خلال محاولة اعتماد المفهوم الجديد للسلطة، وإقرار هيئة الإنصاف والمصالحة، وديوان المظالم ودستور 2011، إلا أن الإدارة في منطق جزء من الشعب لازالت عاقة ولازالت في حاجة إلى إقرار العديد من التعديلات كي تحظى بالرضى إن لم نقل بثقة رجل الشارع المغربي.

تقتضي الموضوعية التأكيد إلى أن جزء من قياديي حزب المصباح وفي محاولة منهم لإيقاف التناسلات التي بدأت تعرفها المواقع الاجتماعية، قد كانوا من السباقين إلى الدعوة إلى الاتزان والتبين، كما دعت الأمانة العامة للحزب إلى “الكف عن الخوض المبني على الظنون والإشاعات، وانتظار النتائج النهائية للتحقيق من قبل الجهات المسؤولة”. وهو سلوك ينم عن نوع من التدبير الحكيم لفاجعة كبرى ألمت بالحزب، وإلى أن الدولة العميقة في منطق الحزب ربما ليست موضوعة أصلا في قفص الاتهام، وأن المؤمن ما ينبغي أن يلقي الكلام هكذا على عواهنه وأن المنطق السليم يقتضي انتظار نتائج التحقيقات، الدولة من جهتها حاولت أن تظهر بمظهر الحريص الأول على محاصرة هذه النازلة، من خلال المتابعة الرسمية لمجريات الأمور من طرف أكبر سلطة في البلاد، ومن خلال سرعة البلاغ الذي أصدرته وزارة الداخلية والحرص الذي أبدته لكي تكون سباقة لمباشرة الملف حتى تملأ الفراغ الذي يمكن أن تتسلل منه الريح ويفسح فيه المجال للتأويلات خصوصا في اللحظات الأولى من وقوع الفاجعة، وهو ما يبرز بأن الحزب ومن خلال “مؤشر الوفاة” قد يكون ربح بعض النقاط في مسار تطبيعه مع الدولة.

جنازة الراحل كانت مفيدة من زاوية التذكير “بقيمة الصداقة”، كل من كان يتابع علاقة السيد رئيس الحكومة بالأستاذ باها لا يمكنه إلا أن يبقى مشدودا لقوة الرابط الذي كان يجمع بين الرجلين، وهو ما دفع البعض لكي يتحدث عن أن بنكيران قد فقد جزء من روحه من حيث أنه قد فقد أخا عزيزا له لم تلده له أمه، ويشهد الله وحده كم ستكون “معاناة” بنكيران وهو محروما من نصح صديقه الذي كان يعتبر ضمن العوامل المكملة لشخصيته، قمة الصداقة يمكن التأكيد عليها من خلال المكانة التي كان بنكيران يضع فيها صديقه باها حيث لم يكن يلاقي أدنى حرج وهو ينعته برئيس الحكومة الفعلي، وكان يعتبره في قاموس الفضل “أفضل منه”، “وبالرجل الرباني” ، وقد سبق لبنكيران أن أشاد بالسيد ادريس جطو لأن هذا الأخير كان متفطنا لصداقة الرجلين وهو ما دفعه لتأثيث المكان المخصص لرئيس الحكومة “بمقعدين” في إشارة منه إلى أن لبنكيران، “بنكيران آخر” اسمه باها لا يمكنه الاستغناء عنه، وغالبا ما يلعب دور المفرمل وضابط إيقاع للسرعة وكذا لاندفاعات بنكيران…

ضمن أفضل ما قرأته تعليقا عن وفاة الراحل وأدواره، أعجبني الأستاذ أورد حين تحدث عن أن بصمات الرجل وحكمته كانت حاضرة في الانتقال السلس الذي وقع في المغرب بعد ثورات الربيع العربي، كما أعجبني بنكيران ورغم الصداقة التي تربطه بالراحل، قد أصر إلى أنه علينا أن لا نقدس الرجل وقد زاد عليه الأستاذ عبد العالي حامي الدين حين لم يكتف بالدعاء للفقيد بالرحمة بل نادى إلى العمل وباستعمال عبارة قوية “حي على العمل”.. على أنه ومهما تكن للرجل من عظمة وشأن فسيكون علينا أن نتذكر المقولة المأثورة بعد وفاة الرسول الكريم (ص) “من كان يعبد محمدًا، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت” رحمك الله الأستاذ باها وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.