https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

أحاديث محرفة تحرض على التطرف والعدوان

“حديث” النّهي عن بداءة أهل الكتاب بالسلام (ج2)

يستند (الفقهاء) المعاصرون المقلّدون المتطرفون فكريا، ومعهم التنظيمات الإجرامية المارقة، إلى فهم محرف لبعض آيات الكتاب الحكيم كما أوضحنا في مقال: “تفكيك جذور التطرّف”، وعلى “أحاديث” محرّفة أو مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ظهر التطرّف الفقهي في تاريخنا مبكرا بسبب الفهم المحرّف والأحاديث المزيّفة المخرّجة في الصحيحين وغيرهما.

ونحن عندما نزيّف تلك الفهوم فإننا لا نقصد الاستهانة بأشخاص أصحابها، وعندما نضعّف تلك “الأحاديث” فإننا لا نرفض السنّة النّبوية أو نشكّك في جهود المحدّثين وإخلاصهم، ولا نطعن في كتابي الصحيحين كما يتهمنا العاطفيون المجرورون.

إننا نمارس نقدا ذاتيا نابعا من الغيرة على الدين الحنيف، آلياته هي صريح كتاب ربّنا وصحيح أحاديث نبينا والمقرّر المعقول من قواعد شريعتنا ومقاصدها.

ويصرّ العاطفيون العاجزون عن مناقشة الأفكار، المقدّسون للغثّ قبل السّمين، على اتّهامنا بالتّعالم والبحث عن الشّهرة، فنسأل لهم الهداية والاستبصار، ونتحدّاهم متواضعين أن يبطلوا آراءنا بالحجة النقلية أو البراهين العقلية.

وبعد، فقد عرضنا في الجزء الأول نصّ (الحديث) الناهي عن مبادرة غير المسلم إلى التحية، الداعي إلى التضييق عليه في الطرقات، ونقلنا شيئا من ترّهات المصحّحين له المحتجين به على آرائهم التافهة السخيفة، وننتقل في هذا الجزء إلى بيان بطلان (الحديث) من جهة المتن/المضمون، ونتحدّى مرغمين من كان بهطاطا تهاميا يجحد تخصّصنا، وينكر حقّنا في البحث، ويتهمنا بالسعي للشهرة، أن يثبت درايته بعلم الحديث عبر الرد علينا بمنهج المحدثين، ونؤجّله في ذلك عاما كاملا.

علل “حديث” النهي عن ابتداء غير المسلم بالسلام

العلّة في اللغة هي المرض المؤثر على عافية الإنسان، وفي اصطلاح المحدّثين هي كل سبب يقدح في ثبوت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره، فهي مرض معنوي يؤدي إلى تضعيف الحديث.

والعلّة قد تكون في متن/محتوى الرواية أو سندها/سلسلة رواتها.

وحديث المقال مثخن بالعلل متنا وسندا، فلا تفسير لتوارد العلماء على تصحيحه إلا تقليد السابق للاّحق، والخوف من الإرهاب الفكري المانع من التشكيك فيما صحّحه الأوائل.

وبعدما نستعرض علل “الحديث”، سيتأكد القارئ، المتحرّر من التعصب والتقليد وتقديس المتقدمين، مما نقول بتوفيق من الله العليم الحكيم.

العلة الأولى: مخالفة المتن لصريح القرآن الكريم:

اتفقت كلمة علماء الشريعة – فقهاء ومحدثين – على بطلان كل حديث يعارض متنه/محتواه صريح آية واحدة من كتاب الله الحكيم ولو كان مرويا بإسناد متصل خال من الضعفاء، لأن الآية متواترة سمعتها جماعة كبيرة عن جماعة مثلها لفظا/أسلوبا ومعنى/مضمونا، والحديث آحادي غير متواتر لا لفظا ولا محتوى.

ويتم تعطيل هذه القاعدة – غالبا – إذا كان الحديث المنقوض بكتاب الله مخرّجا/موجودا في أحد الصحيحين للإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله بحجة أنهما ما كانا يدخلان فيهما إلا ما درساه سندا ومتنا، وتأكدا من موافقته لآيات الكتاب العزيز، ومن هنا استثنوا عشرات الأحاديث المنكرة المحرفة أو الموضوعة رغم مناقضتها الصريحة للقرآن الكريم، ومنها حديث التضييق على أهل الكتاب المروي عند مسلم في الصحيح.

وتتعدّد أوجه معارضة حديث سهيل السمان للقرآن الكريم، وهذا التفصيل:

الوجه الأول: مناقضة الأمر بالبر والعدل:

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الممتحنة المدنية: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ).

تصرح الآية أن الإحسان إلى الكافر المسالم والعدل في المعاملة معه عملان يحبهما الله سبحانه، ولا شك أن مبادرته إلى السلام من أبسط صور البر والإحسان، وأن التضييق عليه في الطريق ظلم وجور وإذاية.

فهل يوجد أيها المقلدون بين حديثكم وبين آية الممتحنة تناقض صارخ؟ وهل نصدق كتاب ربنا؟ أم نؤوّله ونلوي عنقه بناء على رواية آحادية غريبة منكرة؟

الوجه الثاني: مناقضة تشريع الزواج بالكتابية:

يقول الحق سبحانه في سورة الأنعام المدنية: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ، وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ، وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).

إن الآية صريحة في إباحة أكل ذبائح جيراننا من أهل الكتاب وأطعمتهم، وهو نوع من التعظيم والاحترام والتكريم، وواضحة في حلّية تقديمنا الأطعمة لهم على سبيل الهدية أو الصدقة، وهو أعظم في البر والإحسان من مبادرتهم إلى السلام، بل إنها تشرّع لنا الزواج بنسائهم مع دفع المهور كاملة بنية الإحصان لنا ولهن لا بقصد الاستمتاع المؤقت الجائز مع المسلمات.

إن آية الأنعام دعوة ربانية لمنتهى التواصل الاجتماعي العاطفي بين أهل الوطن الواحد بغض النظر عن الدين والمذهب، وهي دعوة ينسفها تطبيق خرافة سهيل الناهية عن مبادرة إخواننا في الوطن والإنسانية إلى التحية، المحرّضة على إذايتهم معنويا وجسديا في الطرقات.

هل يعقل أيها الغافلون المقلدون أن يبيح لنا ربنا قبول هدايا أهل الكتاب من الأطعمة، ثم ينهانا نبيه المعصوم عن مبادرتهم إلى السلام؟

وهل تقبل عقولكم أيها الحمقى الجمع بين إهداء الطعام والتصدق به على جيرانكم ومعارفكم من أهل الكتاب، وبين التضييق عليهم في الشوارع؟

بل كيف تسمح لكم نفوسكم الغافلة أن تجمعوا بين مصاهرة أسرة كتابية وبين التكبّر عن مبادرة أفرادها إلى السلام، ثم التضييق عليهم وإذايتهم؟

وإذا كان مقصود الحديث المصحّح عندكم إهانة المواطن الكتابي واحتقاره لكفره، فأيهما أشد تعبيرا عن التعظيم والتكريم شرعا وعقلا؟ هل الابتداء بالسلام والتوسعة في الطريق؟ أم مشاركته في طعامه وشرابه والزواج بإحدى قريباته؟ أم أن عقولكم فارغة مجوّفة تصدق كل ما يروى كالمجانين؟

سيقول الحمقى المغفلون: يستثنى من حديث سهيل الكتابي الجار أو الصهر، وبذلك يرتفع التعارض.

والجواب: استثناؤكم رأي زائد على ظاهر نص الحديث، فخرافتكم عامة مطلقة لا تخص قوما معيّنين، ثم إن الحديث آحادي ظنّي في ثبوته ودلالته، والقرآن متواتر قطعي الثبوت والدلالة، فكيف تجرأتم على تقييد المتواتر القطعي بالآحادي الظني؟

وأكثر من ذلك، فالآيات الأخرى المناقضة لروايتكم الزّائفة، تنسف طريقتكم التلفيقية في الجمع بين كلام الله المتواتر وخرافة سهيل السمان المتعثّر.

إنها آيات صريحة في الإحسان إلى الكافر كيف كان لونه، دون تفرقة بين الجار والقريب والغريب.

جاء في سورة الحجرات المدنية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

يستنبط علماؤنا من هذه الآية أن التعارف بين المسلمين وغيرهم مقصد شرعي عظيم، ويصدّع المعاصرون منهم رؤوس المخالفين بهذا الكلام، لكنهم ينسفونه نسفا عندما يشرحون خرافة سهيل أو يتلعثمون، لأنهم لا يملكون الجرأة الفكرية على مخالفة اجتاهادات الأوائل المقدّسين، ويظنّون أن تضعيف رواية خرقاء واردة في أحد الصحيحين يستلزم الطعن في السنة النبوية جملة وتفصيلا، فيتمسكون بزعمهم القبيح المستهجن، وهو أن كل ما في الصحيحين ثابت ثبوت الجبال الرواسي، ألا ساء ما يعتقدون.

وبعد، فهل تتفق الدعوة إلى التعارف مع غير المسلمين، والتي تحتاج إلى التواصل وربط العلاقات الجيدة معهم، والنهي عن ابتدائهم بالسلام مصحوبا بالحضّ على إذايتهم في الطرقات؟

أما في عقل المرضى الغافلين، فلا تنافر بين القضيتين، بل هما متكاملتان متعانقتان في أوهام السادرين.

الوجه الرابع: مناقضة شروط الدعوة إلى الله:

قال الحق سبحانه في سورة النحل: ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ).

وفي سورة العنكبوت: ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ).

من الحكمة والحسنى أن يبدأ المسلم غيره بالتحية، وأن يرأف به في الطريق ويوسّع له، فمن شأن ذلك أن يجعل الدين الذي ينتمي إليه عظيما رحيما إنسانيا في نظر غير المسلم فينشرح له صدره ويحترمه شيئا فشيئا حتى يفاجئك باعتناقه، وهذا ما كان يحدث لغير المسلمين زمن النبوة، حيث كان رسولنا العظيم رحيما متواضعا مع كل الناس.

فهل يقبل عقل المسلم المتحرّر أن يحرض إمام الدعاة أتباعه على مخالفيهم، فيدعوهم إلى التكبر والتضييق عليهم، وبالتالي يغلق باب الحوار والدعوة الحكيمة؟

عندما تدخل في ديار الغرب على أي موظف أو عامل يبادرك هو إلى التحية، فواحد يقول لك بالإسبانية: “holla”، وآخر يستقبلك بالفرنسية قائلا: ” bonjour ” ، وثالث يرحب بالإنجليزية: ” good morning” ، فتشعر بالارتياح تجاههم، وتنشدّ عاطفتك إليهم، وتنبهر بأخلاقهم، ومن هنا يعتنق بعض الناس ثقافتهم ومعتقداتهم.

والمسلمون أولى بهذه الأخلاق والطيبوبة، فهم حملة رسالة ربانية خاتمة.

وبعد، فهل يساعدنا “حديث” سهيل بن أبي صالح على الحكمة في الدعوة أيها البهاطيط؟ وإذا لم يكن كذلك، فلماذا تقدّسونه وتنقمون علينا تبرئة الدين منه؟

الوجه الخامس: مناقضة وصف الرسول في القرآن:

أخبرنا كتاب ربنا أن سيدنا محمدا رحمة لجميع البشرية، فقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وأنه كان حريصا على هداية غير المسلمين فقال عز من قائل: ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، ولخّص أخلاقه الكريمة بقوله سبحانه: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

فهل من الرحمة أن يحرّض أتباعه على غير المسلمين، فيتكبرون عليهم ويؤذونهم في الطرقات؟ وهل من الخلق العظيم أن يدعو إلى ذلك؟ وهل يتفق حرصه على هداية الكافرين والتحريض عليهم؟

إن الذي ينهى عن مبادرة الآخرين إلى السلام، ويدعو للتضييق عليهم في الأماكن العامة، لا يصلح أن يتولى أي منصب سياسي فضلا عن أن يكون حاكما وقائدا فضلا عن أن يكون نبيا مرسلا رحمة للجميع.

فإما أن نصدق كلام الله وشهادته في حقّ نبيّه، وبالتالي تسقط رواية سهيل الزائفة، وهو الواجب اضطرارا، أو أن نؤكد ثبوت خرافة الراوي فتنتفي نبوة القائل وترتفع معها شهادة القرآن، وهذا أمحل المحال عندنا وعندكم معشر البهاطيط.

الوجه السادس: مناقضة الأمر برد السلام:

زعم الغافلون أن الغرض من “حديث” سهيل الخرافي هو إهانة غير المسلم واحتقاره، ثم يصرحون بصفاقة أن ردّ السّلام على الكافر المسالم واجب بقوله تعالى: ( وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حسيبا).

وهنا ينكشف تخبطهم وجنونهم بسبب تقديسهم رواية حمقاء، فعدم ردّ السلام أصرح في الإهانة والاحتقار، ولو كانا مشروعين يرضيان الله تعالى لما أوجب علينا ردّ السلام بأحسن منه أو بما يساويه ويماثله.

بتعبير آخر: الآية تدعو إلى تكريم المواطن الكافر واحترام مشاعره من خلال رد التّحية بأحسن منها أو مثلها، وذلك لأنه حق تفرضه الأخوة الإنسانية، وتتطلبه العلاقات الاجتماعية.

و”حديث” البهاطيط يدعو إلى احتقار المواطن الكافر من غير مراعاة للأخوة البشرية ولا الحقوق الاجتماعية.

ومعلوم أن المواطن الكافر الذي لا يبادره المسلم إلى التحية سيقوم برد فعل مماثل، وعندئذ يشيع بين المواطنين الذمّيين أن المسلمين يتقصدون إذايتنا واحتقارنا فلنمسك عن السلام عليهم إذا لقيناهم، فتحدث القطيعة بين أهل الوطن الواحد، وهو ما لا يقبله ديننا الحنيف ولا عقل الإنسان النظيف.

والخلاصة أن آية التحية تدعو إلى احترام مشاعر غير المسلمين، أما حديث البهاطيط فينسف تلك الدعوة وينقضها من الأساس، فلا نقبل أن يكون خارجا من مشكاة النبوة الآمرة بإفشاء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف.

الوجه السابع: مناقضة مبادرة الصالحين للسلام:

قال الله جلّ جلاله في محاورة سيدنا إبراهيم لأبيه: ( قَالَ: أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ).

وقال سبحانه في وصف المؤمنين الصديقين: ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) ، وفي موضع آخر : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).

دلّت هذه الآيات على أن الأنبياء والصالحين يبادرون إلى السلام على الجاهلين المشركين إذا تبيّن لهم أن الحوار لا يفيد معهم بحال.

وإذا كان الابتداء بالسلام على الجاحد المعاند لإنهاء الحوار مشروعا، فكيف يكون ابتداؤه بالتحية قبل محاورته وجحوده ممنوعا؟

وهل يجوز أن ينهى رسول الله عما أباحه الله؟ أم أنكم مجانين تنسخون القرآن المتواتر بالحديث الضعيف الفاجر؟

أفيدونا معشر البهاطيط الغيورين على الدين، المحذرين من طالبي الشهرة المستغلين سلّم الدين بزعمكم المأفون.

فهذه سبعة أوجه لمخالفة “حديث” المقال لصريح القرآن المؤيّد بصحيح العقل والمنطق، فنقسم بأغلظ الأيمان أن رسول الله بريء منه، وأنه محرّف زائف اختلقته أوهام سهيل بن أبي صالح رحمه الله، وأن مصحّحيه الأوائل لم يدرسوا متنه ولم يعرضوه على كتاب الله عرضا موضوعيا استقصائيا لذلك جانبوا الصواب، وأن المتأخرين مقلدون إمّعات.

ونحن في انتظار وشوق لجواب علمي موضوعي يرفع التناقض بين خرافة سهيل وكتاب الله المحكم العدل، وينفي عن السادة العلماء التقصير والتقليد.

“حجّة” مصحّحي “الحديث” من القرآن:

يزعم مقدّسو صحيح مسلم، المستميتون جدا في إثبات صحّة “حديث” سهيل المنكر، وبعضهم علماء كبار، أن القرآن يؤيده ويدعمه بقوله تعالى في سورة المجادلة: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

قالوا: هذه الآية تحرّم مودّة الكافرين، ومبادرتهم إلى السلام أو التوسعة لهم في الطريق من المودّة، وهي محرمة كما تقدم، فيكون الحديث مطابقا للآية.

قلت: قبح الله العناد والتقليد الأعمى.

الآية تنهى عن محبة ومودّة الكافرين المحاربين بدليل عبارة: (حادّ الله ورسوله)، والتي تعني إعلان الحرب على الدين وصد الناس بالقوة عن الاستجابة له، وهو ما يتطابق وقول الله تعالى في الآية المتقدمة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).

والمودّة المحرمة هي الولاء السياسي أو التحالف مع الأعداء المحاربين بدليل القواطع الآتية:

أولا: قال الله في سورة المجادلة قبل الآية المحتج بها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، والحديث هنا عن المنافقين الذين كانوا يوالون أعداء رسوله المحاربين له سياسيا ويتحالفون معهم سرا ضد وطنهم: المدينة المنورة.

ثانيا: قال الباري تعالى في سورة الممتحنة: ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ، وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ).

وهذه آية صريحة في أن موالاة الكافرين غير المحاربين الظالمين سياسيا أو اجتماعيا مشروعة محمودة.

ثالثا: قال الحق سبحانه: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).

أفادت هذه الآية أن البرّ بالوالدين المشركين الداعيين إلى الشرك واجب شرعي، فتأكد أن المودة المحرمة هي إعطاء الولاء السياسي لأعداء المسلمين، والذي يقتضي التحالف معهم ضد المسلمين.

ولا تعارض بين النهي عن الولاء السياسي، وبين الأمر بالإحسان إلى الكافر المنتمي إلى العدوّ، وإلا ما أمرنا بالإحسان إلى الأسرى الكافرين، وما أمر الصحابة بالإحسان إلى آبائهم الداعين إلى الشرك.

وقد وفدت أم السيدة أسماء بنت مولانا أبي بكر الصديق بين صلح الحديبية وفتح مكة على ابنتها بالمدينة، وكانت الأم مشركة من جهة، وقرشية تنتمي إلى أعداء المسلمين، فظنت أسماء رضي الله عنها أن الإحسان إلى المشرك الحربي نوع من الموالاة السياسية للأعداء فجاءت تسأل رسول الله صاحب الرحمة والخلق العظيم قائلة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ علي وَهِيَ مشركة رَاغِبَةٌ – أي رافضة للإسلام – أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ».

فثبت أن المبادرة إلى السلام، أو التوسعة للكافر في الأماكن العامة، ليسا من المودّة المحرّمة ولو كان منتميا إلى الأعداء المحاربين، فكيف إذا كان من الإخوة في الوطن؟ أو كنا نحن ضيوفا عندهم في بلادهم؟

العلة الثانية: مخالفة السنة المتواترة

نصّ العلماء على أن الحديث الآحادي الذي يعارض المشهور من صحيح سنة رسول الله وسيرته الشريفة ضعيف شاذّ ولو كان إسناده صحيحا، أما إذا كان سنده ضعيفا، فهو منكر واه ضعيف جدا.

وهذه القاعدة المقرّرة معقولة يقرّ بها المنطق السليم، لكن السادة العلماء يعرفونها تنظيرا ويهجرونها تطبيقا بسبب التهاون في التحقيق، أو الاغترار باجتهادات السابقين، أو بدافع الهوى والمذهبية.

وتتعدّد أوجه معارضة خرافة سهيل للسّنّة والسيرة المشهورة، فهو شاذ ضعيف إذا أخذنا بتوثيق سهيل بن أبي صالح، أو منكر ضعيف جدا إذا رجحنا كونه مجرّحا ضعيفا بسبب الاختلاط.

وسواء كان ثقة أم ضعيفا، فروايته شبه الريح بالنظر لأوجه المعارضة الآتية:

الوجه الأول: انعدام الوقائع المؤيدة:

كان المجتمع المدني زمن النبوة خليطا من المسلمين الأغلبية واليهود والمشركين والنصارى، دام ذلك عشرة أعوام، ولم يسجل التاريخ حادثة وحيدة لعدم مبادرة النبي أو أصحابه للسلام على إخوانهم في الوطن، ولا واقعة تضييق عليهم في الطريق.

ولو حدث شيء من ذلك لطار واشتهر ونقل إلينا بالتواتر.

فإما أن “حديث” سهيل خرافة وهو الصواب، أو أن النبي عليه السلام يقول ما لا يفعل، وأن الصحابة كلهم عصاة لا يمتثلون أمر نبيهم وقائدهم، وهذان من أمحل المحال.

سيقول الجامدون: ومن أدراك أن شيئا من ذلك لم يقع؟ وهل اطلعت على كل الأحاديث والأخبار فلم تجد؟

والجواب: نتحدّاكم أيها الحرّاس الأشدّاء أن تأتونا بواقعة تشهد لكم على أن تكون من زمن النبوة، ثم بعد ذلك شكّكوا ما بدا لكم.

الوجه الثاني: مناقضة الوصية بأهل الذّمّة:

الذمة هي الشرف والعهد، وأهل الذمة هم المواطنون غير المسلمين، وسمّوا بذلك لأن حماية حقوقهم المادية والمعنوية مرتبطة بشرف المسلمين وعهدتهم، فالتسمية تشريف لا تسفيه.

وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الذمة خيرا، وكثرت الأحاديث في ذلك كثرة تنادي ببطلان ترّهة سهيل بن ذكوان المحرضة على احتقار أهل الكتاب وإيذاء كرامتهم في الشوارع.

ولست أدري كيف استوعبت عقول علمائنا الجمع بين التسليم بوصية رسول الله وبين خرافة سهيل المهينة للإسلام ونبيه العظيم.

روى ثلاثون من أبناء أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن آبائهم، عن النبي أنه قَالَ: ” ألا من ظلم معاهدا وانتقصه وكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة – وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى صدره – ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله عليه ريح الجنة وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا “. أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما بهذا السياق، وصححه الألباني وغيره، وأخرج شطره الثاني المتعلق بالقتل البخاري وغيره.

قلت: عدم المبادرة إلى السلام انتقاص، والتضييق في الطريق ظلم، فأي الحديثين تصدقون أيها الجامدون؟

وإذا كان قتل المؤمن عمدا يؤدي إلى النار، فكذلك قتل أهل العهد والذمة، فالشريعة تساوي بين المسلم والكافر في الحقوق الآدمية، والمتطرفون يستبيحون دماء المدنيين والأبرياء من غير المسلمين بحجة أنهم كفار، وكأنهم لم يروا هذا الحديث الشديد عليهم، فقبّح الله سعيهم وأوقف شرّهم المستطير.

وتلاحظ أن هذا الحديث كان مشهورا متواترا أيام التابعين، قريب عهد النبوة، ثم صار آحاديا لأنه لا يخدم الأنظمة الحاكمة الأموية والعباسية، ولا يرضي العصبية العربية وأنفة الجاهلية.

أما “حديث” المقال المنكر المستهجن، فتفرد به سهيل بن أبي صالح عن أبيه ذكوان عن أبي هريرة، أي أنه لم يكن مشهورا بين الصحابة ولا معروفا، وسهيل من أتباع التابعين، مات في أول دولة بني العباس، ثم اشتهر عنه هذا الخبر وتواتر فرواه الكثير من تلامذته، وذلك لأن دواعي شيوعه وذيوعه السياسية والاجتماعية متكاثرة.

بطبيعة الحال، هذا تحليل لا يقبله الجامدون، ونحن على استعداد للتراجع إذا قدموا لنا تفسيرا مقنعا.

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يخفر ذمتي كنت خصمه، ومن خاصمته خصمته). رواه الطبراني في الأوسط، وابن حبان في الفوائد، وصححه المناوي في “التيسير”، وحسّنه الألباني في الجامع.

قال الصنعاني في كتاب “التنوير شرح الجامع الصغير”: أي من يزيل عهدي بظلم أهل الذمة (كنت خصمه) في الآخرة، لأنه – صلى الله عليه وسلم – الذي عقد الذمة لهم، (ومن خاصمته خصمته) لأنه – صلى الله عليه وسلم – لا يخاصم إلا مبطلًا والمبطل مخصوم، وفيه تحريم ظلم أهل الذمة. ه

قلت: إذا قرأت كلام الصنعاني وغيره من الشراح هنا، أحسست برحمة المسلم وإنسانيته، أما إذا قرأت شرحهم للحديث الفاجر، تعجبت من تناقضهم الفاحش وحمقهم الظاهر، فالصنعاني غفر الله لنا وله يقول في الكتاب نفسه: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام) لأنه إكرام لهم، والشارع أمر بتحقيرهم وعدم الالتفات إليهم والإعراض عنهم، والأكثر من العلماء على تحريم الابتداء لهم بالسلام، فإذا ابتدءوا المسلم بذلك أجاب بعليكم فقط. (وإذا لقيتم أحدهم في طريق) فيه زحمة وعدم سعة، (فاضطروه) ردوه بالضرورة له، (إلى أضيقه)، وأوسعه لأهل الإِسلام. هـ

سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تناقض وحماقة في كتاب واحد.

الوجه الثالث: مخالفة السنة الثابتة:

كان رسول الله يبدأ غير المسلمين بالسلام، تجد ذلك في كتبه ورسائله إلى الملوك والزعماء كرسالته إلى هرقل التي جاء فيها كما في الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى».

هذا هو الأدب، التحية والتعظيم رغم أن هرقل ملك الروم النصارى.

وروى البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيد في غاية الصحة، خلافا لإسناد رواية سهيل، عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ… وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى. ه

قلت: هذا حديث يفوح بنسائم النبوة المنعوتة بالحكمة والرحمة والجمال والكمال، لا خرافة سهيل الموصوفة بالجنون والمجون والخبال.

وهذه هي الصورة المشرقة المعبرة عن روح الإسلام وأخلاقه العظيمة، ومثل هذا الحديث المتفق عليه هو ما يجب على المسلمين تبنّيه، فقد تضمن من الفوائد والعوائد التي هذا لبابها:

أولا: ابتدأ رسول الله الجالسين بالسلام رغم أن أكثريتهم من غير المسلمين، ولو كان ذلك منهيا عنه لتحاشى المجلس أو مرّ دون تحيّة.

ويزعم الغافلون والجامدون أن السلام كان موجها للمسلمين دون غيرهم، وهي كذبة إضافية وفرية دون مرية، وتزوير قبيح لسنة النبي السميح، فسيدنا أسامة يصرّح أن النبي سلّم “عليهم” أي على الجميع، والسادة العنصريون يخصون التحية بالمؤمنين من غير قرينة متصلة أو منفصلة.

ولو صدر عن النبي حينئذ ما يشير إلى تخصيص أتباعه بالسلام، لما أنصت له غيرهم، ولقالوا له: لو كنت نبيا لما خصصت محبيك بالتحية، أما وقد فعلت، فلا تليق بك النبوة ولست داعية إلى رب العزّة، لأن الأنبياء موسومون بالنباهة والرحمة والعدالة والحكمة.

ثانيا: يصرّح الحديث أن الصحابة كانوا يجالسون الكافرين ويحافظون على العلاقات الاجتماعية معهم، بل إن رسول الله نفسه كان يفعل ذلك كما تدل الواقعة وغيرها.

والمجالسة والمخالطة كانت حميمية كما نلحظ بسهولة، وهما أبلغ في التعظيم والإجلال من المبادرة إلى السلام، فظهر أن جعل احتقار الكافر هدفا شرعيا كذبة افتراها السادة العلماء بناء على أسطورة سهيل المختلط المضطرب المدخول عقله.

ثم كيف تجمعون أيها الجامدون بين استحباب التضييق على المواطنين الكافرين في الشوارع عملا بأكذوبة السمّان، وبين اعتقاد إباحة المخالطة والصحبة والمجالسة الحميمية كما فعل الصحابة والنبي العدنان؟

أفتونا في هذا التناقض الذي نسبتموه إلى الحنيفية أيها الجامدون والمتطرفون أولي الحمق والهيجان.

ثالثا: عندما اختصم أهل المجلس، لم ينحز رسول الله إلى المسلمين، بل صار يطالب الجميع بالهدوء حتى سكنت العاصفة، ولولا عظمة أخلاقه ومنها مبادرة الكافرين إلى السلام، لما نجح في إسكات المشركين والمنافقين واليهود وتهدئتهم، وكذلك يكون النبي الرحمة، والقائد الذي يسوس بالحكمة.

أضف إلى ذلك احترام النبي حق المواطنين الكافرين في التعبير السلمي عن معتقداتهم المضادة لدعوته، وفي ذلك درس بليغ للحمقى والمغفلين الذين يستحلون دماء المثقفين والرسامين، بل والكتاب اللبراليين أو اليساريين من أبناء المسلمين.

والجملة الأخيرة من الحديث الصحيح المشرق بأنوار النبوة، صريحة في أن المسلمين القادرين على الانتقام مأمورون من قبل الله تعالى بالصبر على ما يسمعون من خصومهم وأعدائهم ما لم يمارسوا عدوانا مسلّحا.

وشاهده من القرآن كثير كقوله تعالى في شأن المشركين الوثنيين: ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ).

أي اصفح عن المشركين مهما قالوا من كفر وزندقة، وسلّم عليهم قبل أن ترفع لقاءك بهم.

وقوله في شأن اليهود: ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ، وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ، إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).

أي أن أحبار اليهود يحرفون التوراة للتعمية على نبوتك المعلومة عندهم، ليصدوا العامة عن الإيمان بك، ويخونونك باستمرار من خلال نقض العهود وإذاية المسلمين بالقول، ومع ذلك فإنك وأصحابك مطالبون بالتحمل والصبر والعفو، لأنكم حملة مشروع رباني، فلا يليق بكم ولا يخدم مشروعكم: العنف والانتقام.

وهكذا يتفق حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه وعن أبيه، ووصية القرآن بالصبر والعفو عن المسيئين بواسطة التعبير والرأي المخالف.

وبعد، فيا أيها البهاطيط الجامدون، ويا أيها الغلاة المتطرفون، تؤمنون بأن نبي الرحمة كان يصل جيرانه ومعارفه من أهل الكتاب والمشركين، وكان يقترض منهم ويقرضهم، ويزور مرضاهم، ويقبل هداياهم، وكان يكرم من يفد عليه منهم كما فعل بنصارى نجران حيث استضافهم قرابة شهر بمسجده الشريف…

فهل يستقيم ذلك مع التحريض عليهم في الطرقات؟ وهل تعتقدون أنه كان إذا دخل بيوتهم وورد مجالسهم لا يبادرهم بالتحية؟ وأنه كان يضيّق على النجرانيين المتمسكين بنصرانيتهم داخل المسجد أو خارجه؟

إن عاندتم وكابرتم فأنتم أكبر حثالة في تاريخ المسلمين، وأقبح من يسيء إلى إمام المؤدبين رحمة الرب للعالمين، من الكافرين والمؤمنين.

وإليكم هذه الصورة النورانية المنيرة للعقول الجامدة والنفوس الباردة:

قال سيدنا أبو موسى الأشعري: كَانَ اليَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْجُونَ أنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُم الله، فَيَقُولُ: ( يَهْدِيكُم اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ) رواه أحمد، والبخاري في الأدب، وأَبُو داود والترمذي والحاكم، وصححه الأوائل والأواخر من المحققين والجامدين الخواسر.

وانظر كيف كان اليهود يستشعرون الأمان والطمأنينة في مجلس النبي الحاكم العادل، حتى كانوا يطمعون بدافع رحمته وتواضعه أن يدعو لهم بالمغفرة والرحمة رغم تمسكهم بيهوديتهم.

وانظر كيف كان الرحمة والحكمة يردّ على عطاسهم التمثيلي بنفس الدعاء الذي يقال للمسلم إذا عطس، فالصحابة واليهود عنده سواء في الحقوق والمشاعر الآدمية.

الوجه الرابع: مخالفة حديث صريح في الإباحة:

قال مُحَمَّدِ بْنِ زِيَاد: كُنْتُ آخُذُ بِيَدِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى بَيْتِهِ، فَلَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، مُسْلِمٍ وَلَا نَصْرَانِيٍّ، إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى بَابِ دَارِهِ قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي، أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُفْشِيَ السَّلَامَ»، وفي رواية: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا». رواه أحمد في الزهد، والطبراني في معاجمه، وابن السني في العمل، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وجوّد ابن حجر إسناده، أي حسنه وقواه، في فتح الباري، ونقل السيوطي تصحيحه عن الضياء في المختارة، وضعفه الألباني من غير اعتبار طرقه وشواهده، والصواب أنه حسن.

قلت: وهذا الأثر يدل من جهة على انتفاء نهي الرسول عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وإلا ما جهله مثل سيدنا أبي أمامة، ويثبت العكس من جهة ثانية، فالسلام عليهم يعني طمأنتهم والتأكيد على أمانهم.

ووالله لو شئنا بعد هذا العرض المختصر أن نحكم على مصححي خرافة سهيل بالحمق والجهل بمسألة المقال ما حنثنا، وليشرب البهاطيط ماء البحر غضبا وحنقا، فقد أعيانا الجمود وقتلنا التعصب والتقليد قتلا.

وفي الجزء الموالي نذكر ثلاث علل قادحة في حجة الجامدين والمتطرفين، والسلام على كل القراء المؤمنين والكتابيين والمشركين والملحدين…

*خريج دار الحديث الحسنية، وخطيب موقوف بسبب مقالاته الداعية إلى نبذ كوارث الموروث الفقهي

azraq.41@gmail.com

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.