كنال تطوان / بقلم : الدامون عبد الله
قبل أيام، وصلتني رسالة قصيرة جدا من قارئ أحترمه كثيرا، لأنه يبعث، في كثير من الأحيان، بملاحظات مهمة حول كثير من القضايا، فيبدو ذكاؤه شعلة متقدة، رغم أنه يبدو رجلا في حدود السبعين، وفق ما استنتجته من خلال الكثير من ذكرياته.
كتب هذا القارئ رسالة تقول «مررت قبل أيام من أمام مؤسسة عمومية مهمة، ورأيت فوق سطحها علما مغربيا يرفرف وهو في حالة مزرية، علم رث وممزق، ربما بفعل الرياح والشمس وأشياء أخرى. دخلت إلى تلك الإدارة وتوجهت نحو مديرها وقلت له: العلم الوطني على باب إدارتكم رث وممزق، وهذا العلم رمز ضحت من أجله أجيال كثيرة».
ويضيف القارئ متسائلا: «أتعرف بماذا أجابني المدير: قال لي حرفيا: وعْلاش ماتوا عْليه؟!»
وينهي القارئ رسالته بتساؤل مرّ: لماذا، إذن، يتكلمون لنا دائما عن التطرف والإرهاب، ولماذا يخيفوننا بـ«داعش»؟
برسالته القصيرة، رسم هذا الرجل حكاية عميقة عن «الدواعش» الموجودين داخل دواليب الدولة المغربية، والذين لا يهمهم أي رمز من الرموز بقدرما تهمهم مصالحهم فقط؛ وهؤلاء مثل السوسة التي تنخر الجسد من الداخل، بينما الانتباه مركز على أعداء خارجيين نعتقد أنهم يشكلون خطرا علينا، بينما الخطر الحقيقي موجود داخلنا وتحت جلدنا. إننا نشبه شخصا مريضا بالسرطان وينتظر موته في أي وقت، بينما هو يرتعد خوفا من وباء «إيبولا» البعيد.
نسمع كثيرا عن فكر «داعش» الذي يقول إن العلم الوطني مجرد رمز وثني، لكننا لا نأبه للدواعش الذين حولوا العلم المغربي إلى مسخرة وطنية ومجرد قطعة شاحبة وممزقة لا يكاد يرفرف حتى لو مرت به العواصف لأنه تحول إلى خرقة بالية وسخة وثقيلة، بينما ننبهر بأعلام الآخرين وهي ناصعة وأنيقة وتعكس الوجه الحضاري لشعوبها، وكلما رأينا عملا جميلا ونظيفا وأنيقا يرفرف قلنا في قرارة أنفسنا: «هذا علم بلد وشعب يستحقان الاحترام».
في المغرب، يسرقون أرزاق الأرامل والأيتام و»يهْرفون على» ثمن الأعلام ثم يخيفوننا بأن «داعش» قريبة؛ وطبعا، فإننا نخاف من «داعش» القريبة التي ستغزونا وتأخذنا أسرى وغنائم إلى بلاد الشام، ولا نأبه لدواعشنا الذين غزوْنا وأخذونا أسرى وغنائم عندهم منذ زمن بعيد.
رسالة أخرى توصلت بها في نفس الأسبوع من قارئ لم يستطع صبرا على ما كتبته حول ما يسمى «الربيع العربي»، لذلك كتب لي رسالة من سطرين يقول لي فيهما إنني أكره وطني وحاقد على المغرب، ثم طلب مني أن أعالج نفسي عند طبيب.
القارئ غاضب لأنني تحدثت عن فشل الثورات العربية واعتبرت أن البلدان التي يهيمن فيها الفساد لا بد أن يأتي دورها طال الزمن أو قصر، لأن الفساد هو الذي يشعل الثورات وليس الأحزاب أو الحركات الثورية.
القارئ، الذي وجه إلي نصيحة بتلقي العلاج، أجبته فورا وطلبت منه أن يمدني بعنوان نفس الطبيب الذي عالجه، لأن علاجه «واعْر بزاف»، أي أنه لم يعد يعي شيئا من حوله، و»البنْج» الذي وضعوه له جعله لا يفرق بين الوطن والفساد، وهذا، لعمْري، علاج لا يقدر عليه إنس ولا جان.
قارئ مثل هذا لا يمكن وصفه بكلمة غير لائقة لأنه مجرد ضحية من بين ملايين الضحايا الذين لم يعودوا يفرقون بين الوطن والفساد.. إنهم مجرد ضحايا مساكين يعتقدون أن كل من يحارب الفساد هو، بالضرورة، يحارب الوطن، وهذا وباء أخطر بكثير من «إيبولا»، وباء يصيب العقل والروح، والأخطر من كل ذلك أن ضحاياه لا ينتبهون إلى خطورته، والأكثر سوءا أنهم يعتقدون أنهم أكثر سلامة وتعقلا من الآخرين.
رغم ذلك فنحن نقبل بأننا مرضى ويجب علاجنا، وما عليهم سوى أن يجربوا معنا وصفة علاج لبضع مرات وسيجدون أننا نتجاوب مع العلاج بشكل مدهش، لأنه من بين أهم سبل العلاج الفعال أن يعترف المريض بمرضه، ونحن نعترف بمرضنا، بل نريد علاجا في أقرب وقت.
الذين يصفوننا بكوننا نكره هذه البلاد ما عليهم سوى أن يضعوا أمامنا حزمة من الأدوية وسيرون ماذا سيحدث. لنتخيل أننا استيقظنا صباحا وسمعنا بأن عصابات كبار الفاسدين تتم متابعتها أمام القضاء، وأنه تم شن حرب بلا هوادة ضد الرشوة الكبرى والصغرى وضد التهرب الضريبي، وأنه تمت استعادة الأموال المهربة إلى الخارج وتم اعتقال سماسرة الوظائف وتجار العفو، وأنه تم حل البرلمان والمجالس المنتخبة وتسريح الجراد الموجود فيها، وأشياء كثيرة أخرى، كثيرة جدا إلى حد لا يمكن تخيله.
أكيد أننا سنـُشفى، بإذن الله تعالى، ولن نكره الوطن بعدها أبدا، لأن الوطن سيكون قد انفصل تماما عن الفساد.