https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

الرشوة..الحاجز الواقي من انهيار المغرب

كنال تطوان / بقلم : مولاي التهامي بهطاط

قبل أسابيع، كنت قد كتبت مقالا خلصت فيه إلى ضرورة انشغال المغاربة بحمد الله على النعم التي يتقلبون فيها بدل الانشغال بحكايات الربيع العربي الذي تحول إلى انقلاب في مصر، وإلى مشروع فتنة في تونس، وإلى حرب قبلية في ليبيا وإلى حرب كيماوية في سوريا..

وقد تضاربت التعليقات يومها حول هذا المقال بين من نظر إليه من زاوية “كاريكاتورية”، وبين من اعتبره تحليلا واقعيا، وبين من انشغل بتخمين حجم “الغنيمة” أو “الكريمة” التي أوحت به، وبين من اعتبره عملية تيئيسية لإحباط “الثورة” القادمة..

اليوم أعود لأؤكد أنني أكثر اقتناعا بما كتبت، وأن على المغاربة فعلا أن يحمدوا الله على ما هم فيه من نعم، وأن لا يثقوا بأي شكل من الأشكال في شعارات :”الثورة”.

لقد كشفت العطلة الصيفية الأخيرة مزيدا من مظاهر التناقض التي يعجز حتى أكبر علماء النفس والاجتماع عن تفسيرها، فقد عرفت مختلف المصطافات والمنتزهات والمدن الشاطئية هجوما كاسحا جعل أسعار الشقق تصل في بعض الأحيان إلى 3000 درهم (في اليوم وليس في الشهر).

ما كان لي أن أتوقف عند هذه الملاحظة لو أن المتهافتين على هذه الشقق كانوا من أثرياء الخليج، أو حتى من أغنياء المغرب وحروبه الاجتماعية والطبقية، لكن بما أن أغلبية المشاركين في هذا “الهجوم” هم من “الطبقة المتوسطة” التي دوخت خبراء المندوبية السامية للتخطيط، فإن المسألة تحتاج إلى نظر.

فهل يعقل أن موظفا أو صاحب مهنة حرة يحقق دخلا شهريا متوسطا بكل المقاييس، وتحاصره مصاريف ضرورية لا مجال لتأجيلها أو إلغائها، ومع ذلك يدبر أموره بشكل يجعله “يروح عن نفسه” بضعة أيام في عاصمة من عواصم السياحة المغربية التي يتجنبها حتى السياح الأوروبيون فرارا من أسعارها الملتهبة، ويفضلون السياحة في المدن الصغرى والقرى وحتى الفيافي والقفار؟

إن الوجه الآخر لهذه الظاهرة لا يقف عند حد كراء شقة في مدينة سياحية بدءً بألفي درهم يوميا وأكثر، بل في المصاريف “الجانبية” من قبيل الطواف على المطاعم المصنفة والملاهي الليلية ونوادي الترفيه التي تتطلب زيارة بعضها من طرف عائلة متوسطة أكثر من الحد الأدنى للأجور، بل إن وجبة عائلية من المثلجات قد تتطلب “ميزانية”؟

لم يعد غريبا اليوم، مشاهدة سياح أجانب وهم يبحثون عن غرف متواضعة للكراء في أحياء شعبية وهامشية، أو وهم يتناولون ساندويتشات الكاشير الرخيصة في “المحلبات” أو الحدائق العمومية، مع أن دخل كثير منهم يتجاوز وبمرات، مداخيل أبطال السياحة الداخلية ولو من باب فرق العملة..

فأين هي الأزمة أذن؟

ولمزيد من التوضيح يمكن أن نستحضر حقيقة أخرى، فأي منعش عقاري في مدينة متوسطة يمكن أن يخبر قصصا تتشابه في مضامينها وإن اختلفت في بعض التفاصيل وفي الزمان والمكان..

منعش عقاري يبني عمارة للسكن المتوسط، وكل زبنائه من الطبقة المتوسطة..يبيع شقة لموظف لا تتعدى أجرته 5000 درهم شهريا، نصفها محجوز على مدى 15 أو 20 سنة لتغطية أصل وفوائد القرض البنكي.

فكيف يعيش هذا الموظف هو وأسرته بـ 2500 درهم شهريا، بمائها وكهربائها وتطهيرها وخبزها ومرقها ومدارسها ومستشفياتها…؟

والعجيب أنك إذا دخلت شقة هذا الموظف تكتشف أنه يتوفر على أحدث التجهيزات الإلكترو- منزلية من الغسالة الأوتوماتيكية إلى التلفزة المسطحة إلى الحاسوب النقال إلى الهواتف الذكية والطالبيت…وكل ذلك طبعا عبر قروض استهلاكية مهلكة..

وبمنطق حسابي صرف فإن أفراد هذه الأسرة لا يأكلون ولا يشربون ولا يمرضون ولا يذهبون إلى المدارس ولا يشترون ملابس..

إن أعتى عقلية اقتصادية لا يمكنها أن تجد علاقة تناسبية من أي نوع بين أجرة لا تتعدى 5000 أو حتى 10000 درهم وبين مستوى العيش الفعلي لبعض الفئات “المتوسطة” كما هو مسجل على أرض الواقع.

هنا لابد أن نترك العمليات الحسابية والمنطق الرياضي، وأن ننظر إلى الصورة في شكلها المركب انطلاقا من سؤال : من أين لك هذا؟

لا نطرح هذا السؤال لا بالصيغة ولا بالطريقة التي طرح إعلاميا خلال السنوات الأخيرة حيث تحول إلى عنوان لـ”البروباغوندا” والتسويق الداخلي والخارجي، ولا على طريقة المسلسلات المصرية حيث “البطل” دائما يتوفر على فدان أو قراريط منسية في “البلد” موروثة عن أب أو جد، يلجأ إلى بيعها حينما يلتف الحبل حول عنقه، رغم أن ذلك البيع سيتحول إلى عار يلاحقه إلى الأبد..وإنما نطرحه من باب الاستفسار الفعلي : كيف يدبر هؤلاء أمورهم، وكيف ينجحون في تغطية العجز في ميزانياتهم العائلية، لأن دخلهم محدود، ومصادر هذا الدخل معروفة، بينما المصاريف غير متناهية؟

ونحن هنا لا نتحدث عن حالات معزولة أو عن أفراد استثنائيين، بل عن ظاهرة أصبحت شبه عامة، حيث آلاف -وربما مئات الآلاف- من الناس مداخليهم ثابتة ومصاريفهم متحركة وبشكل ينعدم فيه أي نوع من أنواع التوازن.

هذا المعطى، يحيلنا بالضرورة على معطى آخر لا يقل أهمية، يتمثل في أن مصادر الإثراء في المغرب محدودة للغاية خاصة بالنسبة للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.

فالمغرب ليس أمريكا حيث يمكن لأي شخص أن يتحول إلى ملياردير بين عشية وضحاها، لأن الوسيلة لدخول عالم الأثرياء في وقت قياسي عندنا تأخذ أحد شكلين، إما تجارة المخدرات أو الغرف من المال العام.

وهناك طريق ثالث يمكن أن يفسر مظاهر البذخ الاستثنائي الذي يعيشه كثير من الموظفين العموميين، يتمثل في “الرشوة”.

هذه الرشوة التي تجندت الدولة والمجتمع المدني بل وأنشئت وكالة عمومية لمحاربتها، تمثل في الواقع صمام الأمان الوحيد الذي يضمن الاستقرار ويجنب المغرب مخاطر انفجار اجتماعي قد لا يبقي ولا يذر.

وسيكون من العبث المطلق الاعتقاد بأن هناك وسيلة أخرى تمكن شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة من العيش فوق إمكانياتها الفعلية والواقعية.

ولا ينبغي أن نخجل من الإقرار بأن هناك هرمية إدارية موازية تشكلت حول مائدة “الرشوة”، فلكل نصيبه حسب موقعه في هذا الهرم.

والمقصود بطبيعة الحال هنا الرشوة الصغيرة وليس رشوة الملايير التي تتجاور عادة مع الصفقات الكبرى.

فعلى فرض أن شارعا ما في مدينة ما يحتله ألف بائع متجول، يدفع كل منهم يوميا أتاوة قارة لا تتعدى 5 خمسة دراهم، فمعنى ذلك أن هؤلاء يقدمون يوميا 5 آلاف درهم أي 15 مليون سنتيم شهريا لعدد محدود من الموظفين “الفاسدين” و”المرتشين” لا يقل النصيب الشهري لكل واحد منهم من هذه الغنيمة الباردة عن 5 ألاف درهم، أي ضعف ما يتقاضاه ربما من خزينة الدولة.

هذا المثال البسيط يوضح عمليا كيف ينجح موظفون عاديون في الارتقاء الاجتماعي وكيف يصرفون ببذخ على الكماليات، من العطل إلى المدارس الخاصة والمصحات التي تقدم خدمات سياحية…

باختصار شديد، إن الفساد الذي يسعى كثيرون لمحاربته، هو ما يضمن الاستقرار في البلد، فالموظف الذي يحصل على رشوة يريح خزينة الدولة من مطالب الزيادة في الأجور والتعويضات، والمواطن الذي يدفع الرشوة من أجل التغاضي على البناء العشوائي أو من أجل احتلال ملك عمومي لممارسة نشاط اقتصادي غير مهيكل، يعفي الدولة من المطالبة بحقه في السكن والشغل.. وما إلى ذلك..

ومن هنا على الذين يرفعون شعارات محاربة الرشوة أن يأخذوا بعين الاعتبار الكلفة الحقيقية التي قد يتطلبها مشروع حقيقي للإصلاح والتطهير..

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.