كنال تطوان + / الش.ب – عبد العزيز حيون (و.م.ع)
قليل من الأجيال الصاعدة وسكان الأحياء العصرية بتطوان من يسمع بمهنة “الدقاق”، إلا أن هذه المهنة الموسمية، ورغم أنها في الطريق إلى الزوال، لا يستقيم إلا بها سحور ساكنة المدينة العتيقة خلال رمضان.
وكعادة المدن المغربية الشمالية العريقة، يبقى لعدد كبير من أحياء تطوان، عدا الاحياء التي تكثر بها العمارات والفيلات، “دقاق” خاص به يتكلف في وقت مضبوط بالمرور على كل منازل الحي، وهو يحمل مصباحا، ليوقظ أهلها بدق الأبواب بجذع شجرة من أجل تناول وجبة السحور والاستعداد لصلاة الفجر.
ويتلو “الدقاق” عادة، عند دقه أبواب المنازل ومروره بمختلف أزقة الحي، بعض الدعوات للصائمين، ويطلب لهم من الله التوبة والمغفرة ويرزقهم الحلال الطيب ويذكرهم بأجر الصيام والسحور وصلاة الفجر، مبتدئا كل دعاء بـ “أيها الصائمون، قوموا تسحروا (استيقظوا للسحور) ..”.
ويستثني “الدقاق” بعض منازل الحي ليس إهمالا أو تقصيرا من جانبه، بل لرغبة بعض أصحاب تلك المنازل، ويعني ذلك بعض الأسر التي لديها أطفال صغار أو مرضى أو شيوخ أو عجزة، ويتحاشى “الدقاق” طرق أبواب المنازل المعنية باتفاق مسبق بين صاحب المنزل والدقاق، أو بقيام أصحاب المنزل بشق الباب ليعلم الدقاق أن للأمر سبب ويتحاشى بذلك الدق على الباب المعنية.
وحتى لا يتم إزعاج أصحاب المنازل بالطرق “العنيف” الذي يقوم به “الدقاق” كل وقت سحور، فقد اهتدى بعض “الدقاقين” إلى طريقة أخرى باستعمال بعض الآلات الموسيقية ك”الغيطة” (مزمار يستعمله أهل منطقة جبالة) أو الطبل، وهناك البعض الآخر من يكتفي بترتيل بعض الآيات القرآنية عند مروره بالحي أو تلاوة بعض الأناشيد الدينية والصوفية.
ويقول محمد السكاكي أحد “دقاقي” حي سانية الرمل بتطوان، “إن هذه المهنة في طريق الانقراض لأسباب كثيرة ترتبط، أساسا، بالعادات الجديدة لساكنة شمال المغرب وتطوان على وجه الخصوص، وعدم الاكتراث للتقاليد القديمة الموروثة عن الأجداد، وكذا لكون العديد من سكان الأحياء لا يخلدون للنوم قبل السحور، بل يتابعون البرامج التلفزية إلى أن يأتي وقت السحور أو يقضون هذا الوقت خارج المنزل، خاصة حين يتزامن شهر رمضان مع فصل الصيف والعطل.
واعتبر محمد السكاكي أن الحفاظ على مهنة “الدقاق” هو حفاظ على موروث حضاري توارثته أجيال منذ مئات السنين، وتعكس هذه المهنة، من وجهة نظره، التلاحم الذي كان قائما بين سكان الحي بأغنيائهم وفقرائهم، مشيرا إلى أن “الدقاق” كان في وقت من الأوقات “عملا تطوعيا” يقوم به بعض رجال الحي بالتناوب حتى لا يفوت على أهله وقت السحور، قبل أن يتحول “الدقاق” إلى “مهنة” يزاولها البعض في المناسبات المعتادة.
وعن كيفية استخلاص “الدقاق” لأجره، قال محمد السكاكي إنه “ليس هناك أجر محدد تلتزم به كل عائلة من عائلات الحي، فالأداء أو “الاستحقاق” يتوصل به “الدقاق” يوم عيد الفطر، ويبقى رهينا بـ “مدى كرم وجود” أهل الحي، إلا أن الكل يلتزم بمنح “الدقاق” زكاة الفطر والحلويات التي تم إعدادها بمناسبة عيد الفطر، ويقدم بعض الميسورين “إتاوات خاصة وملابس وهدايا أخرى عينية”.
وأكد السكاكي أن ما يحصل عليه “الدقاق” من تعويض بمناسبة انتهاء شهر رمضان يكفيه لسد حاجيات أسرته لشهور طويلة، من ملبس ومأكل وتمدرس الأطفال…، ويرجع السكاكي ذلك إلى أن ما يحصل عليه من أموال وبعض الهدايا فيه “البركة الكثيرة”، ولأن ذلك “يصادف أحسن الشهور عند الله وأبركها وأطيبها وقت تكون فيه القلوب صافية والضمائر حية”.
وقال السكاكي إن غالبية “الدقاقين” يضطرون خلال باقي فترات السنة إلى ممارسة مهنة أخرى “قريبة نسبيا من مهنة الدقاق” وتدر عليهم أيضا بعض الأموال، ويتعلق الأمر بمهمة إخبار أهل الحي ببعض الأفراح أو الأحزان بتكليف من الأسر المعنية، من أعراس وحفلات العقيقة والإعذار، أو الجنائز وحالات المرض…
وإذا كانت مهنة “الدقاق” مهنة بسيطة وموسمية، إلا أنها مهنة لها ارتباط بالتراث المادي واللامادي للمدن المغربية العتيقة، وهو ما يستوجب الاعتناء بها لتتوارثها الأجيال، كمهنة تعكس بشكل جلي تلاحم المغاربة وتضامنهم وتآزرهم وافتخارهم بأصالتهم.