كنال تطوان / بقلم : عدنان بنصالح
لا يستقيم بِحال من الأحوال فَصْل الجامعة عن السياق السياسي والاجتماعي العام الذي يحيط بها، والمتأثِّر بحالة إصلاحية عامة وشاملة تخترق المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في إطار مراجعة دستورية عرفها المغرب عــزَّزت من الاختيار الديمقراطي وانتهجت المقاربة التشاركية مدخلاً للتشاور والتعاون والتشارك حول مسائل وقضايا متعددة تهمّ المجتمع والدولة والقوانين، وحضّت على الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير وتسيير شؤون الشأن العام ومصالح الشعب؛ مِمّا يُـحَتِّم على الجهة الوصية على قطاع التعليم العالي بالمغرب الانخراط التامّ في زمن الإصلاح واحترام مبادئه وتقدير أولويته وعُمقه الدستوري والـــمُجتَمَعي، والإنصات العميق والصادق إلى دعواتِ ومطالب وتوصيات المجتمع المدني والفعاليات الشبابية والطلابية المُهتمّة والحريصة على المسألة التعليمية وسُبل النهوض بها.
لكن ومنذ انطلاق عملية إقرار وتفعيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي اعتبرته كل الحَساسيات السياسية والمدنية ليس مجرّدَ إقرار بجملة من القضايا والإجراءات التقنية والمسطرية والمنهجية والإدارية فحسب؛ وإنما هو في واقع الأمر مشروع مجتمعي تنموي طموح؛ وبعد إطلاق البرنامج الاستعجالي الذي لم يُعالِج في التعليم العمومي والعالي شيئا يُذكر، وبعد استِبشارٍ بالمخطط الرباعي الذي أعدّته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوني الأطر مطلع العام 2012م، نطالِعُ اليومَ واقع جامعاتنا المغربية فإذا هي على حالٍ لا يرضي مَن صاغ الميثاق ولا المخطط الاستعجالي ولا مَن دعا لهما، ولا مَن حَشَــد ونفّــذ ورعى وتابع مقتضيات التنزيل، ولا مَن استُهِدفوا بجُملة تلك الدعامات والبنود والأهداف والمجالات ومُخرجات، الأمر الذي لا يُمْكِن معه _ بأيِّ وجه من الوجوه _ أن يستمرّ، وأن لا يُــفتح مِن أجْله تخطّي هذا الواقع الــمُحزِن حوارٌ وطني شامل يجمع كلّ المتدخلين والفاعلين والقائمين على الشأن التربوي والعلمي وتكوين الأطر بالجامعة المغربية.
لقد ظَلَّ تعليمنا تعليما هجيناً رغم أن كل الغيّورين وحتّى غير العابئين ظل يطرح _ ومنذ مدة طويلة _ بأن التعليم المغربي في حاجة ماسة إلى إصلاح عميق جدا، إنْ على مستوى بنيات التكوين أو تكوين البِنية أو المضامين والطرائق والآفاق؛ بقِيَ هذا المطلب حاضراً بقوة على امتداد أجيال منذ حصول البلاد على الاستقلال، وإلى وقتِ خروج الناس إلى الشارع وانتفاض المجال العام على قضايا عديدة وفي المتن منها واقع التعليم بالبلد. وخِلال ذلكُم المسار كان يتّضحُ أنه لا يمكن إصلاح التعليم دون إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ورغم أن هذا التأكيد أضحى من المُسَلَّمات إلا أنه لم يُـؤْخَذ بعين الاعتبار من طرف مُبَلْــوِرِي سياسات الإصلاح الجامعي المُقَرَّر حاليا بالمغرب، والذي سيدخُل سنته الرابعة تنزيلاً وتفعيلاً.
يبدو أن الإصلاح الجامعي لم يكن منسجما مع الصيرورة التي يعرفها نمط تطور المجتمع المغربي وبنياته، وذلك اعتبارا أنه لم يكن نتاجا لنقاشات ومناظرات بين كل الفاعلين الذين يهمّهم الأمر حاضِراً ومُستقبلاً، ولا حتّى نتاجا لحوار ونقاش وتشارُك بين القائمين على التعليم العالي وبين الطلبة والنقابيين وباقي المُتدخّلين في ذات المجال. كـــــــــما يبدو أنّ _ ومن خلال المبادرات الإصلاحية الجديدة المترافقة مع مخطّطات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر _ الخاصية الأساسية لهذا الإصلاح الجامعي تتمحور حول محاولة طَمْر كلّ التجارب السابقة في ميدان التربية والتكوين وخلق قطيعة معها، مما يقودنا إلى الاستفسار عمَّ إذا كانَ هذا الفِعل والأمرُ اعتراف ضمني مُحتشم على أنَّ التجارب السابقة كانت كلها سلبية وغير مجدية ولم يكن وراءها أي طائل؟ أم أنّه فصلٌ جديدٌ من فُصول تطبيق السياسة التّجزيئية؟ وسنّ شِرعة (إصلاح يتلو إصلاحاً) !
يعتقد البعض أن الإصلاح الجامعي الحالي بالمغرب يكرس نهجا واحدا لا غبار عليه، وهو محاولة إعادة نفْس الأساليب وبنفس الأدوات، بينما يرى البعض الآخر أن الإصلاح الجامعي جاء بالأساس لمحاولة امتصاص الغضب (الطلابي والمُجتَمَعِي)؛ عِلما أن الدولة المغربية دأبت على نهج خاصٍّ مفاده ومؤدّاه: أنه كلما كانت هناك أزمة فإنها ترفع لها شعارا، وكلما عجزت عن تجسيد شعارها على أرض الواقع ترفع شعارا آخر أكبر منه وتظل دار لقمان على حالها !
إنّ تأكيدنا على تجديد الدعوة إلى حوار وطني جامع من أجل إصلاح جامعي ذو طابع انتقالي سريع؛ يرمِي إلى الأخذ بعين الاعتبار كل المبادرات الصاعدة من بنيات بعض هيئات المجتمع المدني الجادّة، والحِرص على ضَمّ أصوات الإصلاح وجهود القائمين عليها وتمديد مِساحة التّناظُر والحوار من أجل إصلاح جامعي قائم على الجودة في التكوين، والمهارة في الأداء، والوطنية في التوجُّه، والــجِدّة في مُضاعفة البنيات التحتية والتشريعية والبيداغوجية، والانفتاح في الشراكات والإسهام في تخريجٍ نُخبٍ وطنية كُفئة ومُنْتِجَةٍ. وإنّ حوارً وطنيا جامعا ومسؤولا؛ يُنصَت فيه إلى لغة العقل والعلم والإنتاج، من شأنه أن يُسهم في إيجاد مَخْرَج لجملة التّخبّطات التي يعرفها قطاع التعليم العالي وواقع بعض الجامعات المغربية، ويشكِّل مُستَنداً لمشروع وطني إصلاحي كبير نافع لمُستقبل الأجيال.
فالحوار الحوار.. أو خرابُ الديار !
والله أعلم.