وأنا أهم بامتطاء السيارة عائدا لتوي من مقهى في الطريق السيار الرابط بين القنيطرة والرباط بعدما أخذت قهوتي، فاجأتني رفيقة دربي في هذه الحياة بالخبر الصاعقة: الله…الزايدي مات..قلتُ ماذا تقولين..؟ كأني لم أصدق..أجابتْني.. إحدى صديقاتي المشتركة مع ابنته أخبرتني بذلك..وتأكدتُ من الخبر على التّو من الإذاعة المفتوحة بالسيارة.. قالتْ!
سرَح خيالي للحظة بعيدا قبل أن أبدأ في ارتشاف قهوتي..وتساءلتُ بسذاجة كيف يموت الرّجال ويبقى الرعاع..؟ كيف يرحل عنا مِن هذا العالم الذي ملأتْه الرداءة حتى التخمة، مَن يتأدب في حديثه حتى مع الخصوم، بالرغم من أن قدره رمى به إلى مجال السياسة الذي جعله الأباطرة والانتهازيون والوصوليون وتُجار الدين “فن الممكن”، بينما “الرّاحِل” عنا كان يجعل الأخلاق والتأدّب أول السلاح الذي لابد منه لخوض معارك السياسة، تيمنا بمبادئ قيادي جليل من ذات الطينة الحزبية هو عبد الرحيم بوعبيد الذي لم يكن ممن يضعون الأخلاق جانبا إذا هم انخرطوا في النشاط السياسي، بل كان يرفض أية سياسة من دون أخلاق !
إن رحيل أحمد الزايدي القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبغض النظر عن كونه كان فاجعة ورُزءا ومصابا جللا للوطن وللحقل السياسي، وكذا الإعلامي، إلا أنه كان كذلك “رجّة” قوية في الجسم السياسي والحزبي بالبلاد، لعلها تفعل فعلها لدى “نخبة” باتت بين عشية وضحاها تملك مفاتيح دواليب الحكم والمؤسسات السياسية والحزبية والنقابية وحتى الجمعوية والإعلامية أيضا، ولا تملك من الأدوات غير إجادة حبْك المطبات حتى لا نقول المؤامرات، والبحث عن المآرب الشخصية، وإصدار الخطابات الشعبوية والتضليلية، تارة تحت غطاء “الوطنية” المفترى عليها من طرفهم، وتاراتٍ أخرى تحت يافطة عريضة اسمها “جلالة الملك”.. وهي شعارات بات يرفعها أشخاص لم يقدروا حق قدرها المسؤولياتِ الملقاةَ على عاتقهم وخانوا أمانات أنيطت بهم..فمنهم من قضى ورحل في صمت لم يعد يذكره أحدٌ إلا لماما وفقط من باب سوء الذكرى، ومنهم مَن ينتظر دوره للّحاق بكوكبة المنسيين غير المأسوف عنهم، حتى وإن كانوا يملأون اليوم الساحة صياحا وصخبا كثيرا.
ولعل اللافت في تشييع جنازة الراحل أحمد الزايدي هو قدرة الرجُل الخلوق والمهادن، حتى وهو ميت، على حشد تلك الجماهير الغفيرة التي مشت وراء جثمانه، وهي رسالة أو وصية -لعُمري- موجهة إلى كل الذين يتشدقون بقدرتهم على “تجييش” الشارع، وإلى الذين يزعمون كذِبا وزورا وبهتانا أن لهم قواعد جيش عرمرم من الناس ينتظر فقط إشارة منهم لـ”التحرّك”، مفادها (الرسالة) أن لا الصياح الموغل في الشعبوية، ولا الخطاب المنمّق بلِحى التّدين المشكوك فيه، قادران على تخليد أسماء الناس بين الناس، بل فقط هي الأخلاق الفاضلة والصدق مع النفس ومع الآخرين، واتقاء شرّ الكلام والتنابز بالألقاب والكذب على المواطنين، والتواضع في الجدال والمجادلة لا الترفّع باسم طُهرانية مزعومة و”أنا” مرَضية مقيتة تهدد الناس بـ(أنا أو الطوفان..)..
إنا لله وإنا إليه راجعون.