كنال تطوان – اعداد : مراد بنعلي / عدسة القندوسي محمد
“أصيبت أمي بحمى سعال شديد لبضعة أيام، كانت سببا في وفاتها ورحيلها إلى غير رجعة”… “الغاز كان يخترق الأجساد، يحرقها، لا يترك لها للمجال للتحمل والمقاومة…”، “لوثوا كل شيء بداية من الإنسان (بنادم) مرورا بالماشية ووصولا إلى النبات، الأراضي الزراعية باتت جرداء قاحلة إلى الأبد”…، كانت هذه بعض الشهادات التي استقاها مخرجا الفيلم الوثائقي”أرهــــاج” (وتعني السم بالأمازيغية) المغربي رضوان الإدريسي والإسباني خافيير رادا، من بعض من عايشوا قصف منطقة الريف بالغازات السامة من طرف سلاح الجو الإسباني على وجه الخصوص، خلال الفترة التاريخية الممتدة ما بين 1921 و1926.
ويأتي عرض شريط “أرهاج” في إطار فعاليات ندوة دولية حول موضــوع:” تحليلات جديدة عن حقيقة حرب الغازات السامة في الريف “، احتضنها فندق أمنية بويرطو (طنجة) مساء السبت 15 مارس الجاري، وتندرج ضمن سلسلة ندوات منتدى ثويزا للحوار الحر، التي تنظمها مؤسسة المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية بطنجة.
وإضافة إلى شهادات الضحايا ممن لازالوا على قيد الحياة وقد بلغوا من العمر مدى، وانتشر الشيب في رؤوسهم وباتت التجاعيد شاهدة على آلامهم، وقد عرضوا بقايا قنابل وقطع حديدية من بقايا تلك المرحلة، احتفظوا بها أدلة تثبت حجم الدمار التي سببته العملية برمتها. تضمن “أرهاج” كلمات تختزن الألم والحزن، جاءت على لسان العديد من الفعاليات الجمعوية والحقوقية، أجمعت على مرارة تلك المرحلة السوداء التي مر منها الريف (الحسيمة، تطوان…)، حتى بات الريف مصدرا لما يقارب 80 في المئة من حالات الإصابة بالسرطان على صعيد التراب الوطني -تضيف إحدى الشهادات-.
ويعود الشريط مرة أخرى إلى شيخ ببشرة سمراء عبر عن المحنة التي عاشها وما يزال، لا لسبب سوى أنه قاوم المستعمر ولم يجد أمامه سوى آلات تطير في السماء، وتوجه سمومها تجاه أهله وعشيرته وكل أهالي المنطقة، كلمات ب “الريفية” صفق لها الحضور كثيرا وتفاعل معها بشكل ملحوظ، حضور ضم أسماء سياسية، جمعوية، ثقافية، من داخل المغرب وخارجه.
الشق الثاني من الندوة شمل أربع مداخلات، تناول كل واحد منها الموضوع ضمن زاوية اشتغاله، وقبل ذلك تحدث ذ.إلياس العماري -رئيس جمعية ضحايا الغازات السامة بالريف ورئيس المؤسسة المنظمة للندوة-، عن الحيثيات التي ميزت بداية اشتغاله على الموضوع، وبحثه العميق على مستوى العديد من المؤلفات التي اهتمت بالغازات السامة، خاصة الالمانية منها والإسبانية…، اشتغال ميزه مع مرور الوقت الانتقال من نطاق الجمعوي إلى إطار أكبر يخص الجانب العلمي.
فيما تناوب بعدها على الكلمة كل من: الباحث الألماني روديبرت كونز أحد مؤلفي كتاب: “غاز سام ضد عبد الكريم، ألمانيا واسبانيا وحرب الغاز في المغرب الاسباني”، والكاتبة المغربية-الفرنسية زكية داود، مؤلفة كتاب: ” عبد الكريم، ملحمة الذهب والدم”، و الباحث المغربي عبد اللطيف النكادي، صاحب بحث “الطب الامبريالي في مواجهة ثورة عبد الكريم الخطابي”، مداخلات جعلت كل هؤلاء يوثقون بالأدلة التاريخية والمخطوطات، ويستحضرون صور المشاهد الأليمة التي مرت قبل 80 سنة، التي تحكمت فيها يد الإمبريالية المتغطرسة، حينما قرر جيش الاستعمار الإسباني مدعوما بنظيره الفرنسي، ومستخدما خبرة ألمانية، استخدام سلاحه الجويـ لضرب معاقل المقاومة في كل مناطق الريف، عملية استخدمت فيها العديد من أنواع الغازات السامة التي أتت على الأخضر واليابس، أسقطت ضحايا كثر ووضعت المئات في خانة المعطوبين وآخرين مصابين بسرطان ينخر الأجساد.
إن كتابة التاريخ تأويل للماضي ينبغي إعادة النظر فيه باستمرار -تضيف المداخلات-، وتاريخ منطقة الريف يشهد على أن المنطقة قصفت بعدة أشكال من الغازات السامة (الخردل، الفوسجين….)، وهو ما يعتبر بلغة العصر ضربا من ضروب استخدام أسلحة الدمار الشامل.
وحسب ما جاء في المداخلات، فالمستعمر لم يكن همه حينها فقط إسقاط الضحايا والجرحى (بني ورياغل، بقيوة، تمسمان….)، بل ممارسة نوع من التعذيب النفسي في حق ضحايا مفترضين سيكلفون الكثير لعلاجهم (تقرحات جلدية، عمى،…)، وهو الذي كان يوفر الحماية بالمقابل لكل جنوده، حتى لا يتعرضوا للأذى واستنشاق الهواء الملوث الناتج عن الاستخدام المفرط للغازات المذكورة.