كنال تطوان / بقلم : حسن بنشليحة
طنجة، ها أنا جددت العهد يا قمري بعد أن قض الشوق قلبي، وكما وعدتك، مرة كل سنة لتغطية، اسمحي لي، مهرجانا وطنيا سينمائيا يسرف على سريرة برزخك.
لكن لا تغضبي وارفعي سحنة الحزن على محياك وامسحي الدمع الذي يغفو على خديك، يا جوهرة الشمال، يا من تجتذب الصغار والكبار بسحر ارث ماضيك وحاضرك، وبساطة الابتسامة العريضة التي تنير شفاه صدق اهلك، وإيقاع الحياة المنضبط في أسواقك ورونق منازلك القديمة العتيقة وشوارعك الفسيحة والامتثال لحركة المرور المنظمة، والتاج الذي يرصع ضفتي البحر بنفحة عبيره على وقع لمسات تصاميم الكورنيش الفنية الجميلة، وتوافق ثورتك العمرانية ببناياتك الحديثة المذهلة وألوانها البيضاء الزاهية التي تسر الزائرين وتضفي روح البهجة والجمال على الحياة.
ونفسي أفهم خشيتك على قطبك الثقافي العالمي وخوفك على سر بهاء واحتك الهادئة ورمز جمال زهرتك التي استقطبت موجات من عمالقة أدب العالم والفن في القرن الماضي، وقلقك على اقتحام هيبة أرضك “فن” جيل الضياع الذي يمجد القبح والانحطاط الفكري يسيء لمقامك ويهدد كيانك ووجودك ويعجل بدمار ملكاتك. لا تخافي يا ملاكي، تحملي سياسة ظلام هلس “سينما” تسعى لتلطيخ صفاء سمائك، واستنيري بليونة إحساس تسامحك وصبرك وشموخك مثلك مثل رجالك ونسائك. صدقيني، جنون سحر شاعريتك يتنامى في داخلي وأنا اشق دروبك الضيقة الأنيقة وشوارعك النظيفة المكتظة وأسواقك الشعبية المشعة وكلما تهت بين أناسك البسطاء بعفوية تفاعلهم الثقافي العميق، لتسعة أيام هي من أحلى أيام عمري.
هل تدركي انك تطيري بي إلى عالم الإلهام والأحلام والخيال واشعر أني لست على هذه الأرض عندما أتذكر الماضي في مقهى باريس الكبير، أو عندما أنتعش بسر فضاء قصر مولاي حفيظ، أو اندفع نحو متحف القصبة، وسوكو الصغير، ومتعة تعقب أثر العباقرة المرتحلين بزنقة سيدي بوقنادل، أو احتساء فنجان قهوة بمقهى “حفة” رائحته التاريخ. وفيلا المنيرة! يا الهي من هنا ارتفع صوت “الغضب”، وصرخة الإنسان الذي يقاوم “الأكذوبة” ويعري الحقيقة ويفضح الخديعة المستمرة ويوحد القلوب ويقلب خريطة السينما الأمريكية رأسا على عقب ليدين انهيار الإنسانية ويتساءل عن الهوية الضائعة ويخترق قلب الريفييرا الفرنسية.
الم تصدح حنجرة القمم الهمام من بين سكون منبع إلهامك وحسنك وجمالك وأطلقت من فوهة أقلامها رعدا هادرا يقتلع من الجذور التفسخ الإنساني؟ كُفي يا عزيزتي طنجة عن العواء لان لحن “عواء” كسر قبح الجمود بقوة المجد والخلود ورفع صوتك الرخيم فوق نعيق البوم التي تهلل لصهيل الخيل المبحوح تتقاذفها أرواح الشرفاء بسرعة الرياح إلى مقالب الزبالة. يا لمرارة الحقيقة بين درجة حرارة “غداء تعرى” بسجايا الروح الفنية في وداعة جبالك واكل منه الأحرار، ودرجة حرارة “حمى” غلى إهانة وعهرا، واكتسى بثوب الإسفاف إلى مستوى أدنى من قياسات خدعة فراغ نقطة الصفر.
استشعر كآبتك في روحي الممزوجة بحالات الانهيارات النفسية لكن هل يكفي الأسى أو يكفي النحيب؟ وهل يكفي التحسر أو الندم أو الاعتذار؟ هل أبوح لك بما يثقل صدري وما يختلج في ذاكرتي عندما أحط الرحال على حافة غار هرقل كما وقفت عليه أسماء القرن العشرين الأسطورية؟ هل انزوي في هذا الغار لأروي قصة مجدك للجيل الضائع القادم من أعماق المتاهات المشروخة لينحت على صخرك تمثالا يشبه تمثال ديونيس؟ لا تعجبي، حبيبتي طنجة، نحن نعيش في زمن يموج بالنقائض الانهزامية التي ترفع من آفات الجهل المعرفي المروج لثقافة الهدم والكراهية بفنون التملق المشوهة للذاكرة الوطنية.
بلا، سأنكفئ داخل نفسي احفر الدهاليز المظلمة وأقبية مسخ “أفروديت” واكتب بدم القلب واطلب الصفح والمغفرة منك لاسترجاع رضاك وعفوك. كيف أبكيك بلا دموع وما عساي أقول لمشهد نصبك المتهاوي ومعه شعب رائد وحضارة عريقة وتاريخ إنساني ساطع بالفخر والسيادة والتواضع والشموخ في زحمة الزمن الحالك. لربما صفحت عني ولكن كيف سأصفح عن خطيئة تشرد يدي التي لم تمسك القلم لترسم عالم فردوس انجازاتك العظيمة يتنزه فيها خاطري، بدلا من أن انعي، يا ترى، استفزاز أوجاع قاذورات “فن” نصيبه حاوية القمامة.