https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

التدبير الديني الجديد ومدى مساهمته في ضمان الانتقال الديمقراطي بالمغرب

محمد لمرابطي

يعرف الانتقال الديمقراطي بكونه مسلسلا يروم توقيف القواعد الأوتوقراطية عن الاشتغال وتعويضها بأخرى ديمقراطية، ويشكل مرحلة وسطى للمرور من نظام سياسي مغلق إلى آخر مفتوح؛ وبالمناسبة، فإنه إذا كان الانتقال الديمقراطي يظهر صعبا وطويلا، وربما لن يحصل على أرض الواقع إلا بعد مدة زمنية طويلة، فإن الانتقال الديني على الرغم من صعوبته، قابل للتحقق، لأن الهوية الدينية للدولة المسلمة أمر مهم، كما أن نسبة مئوية كبيرة من القوانين المغربية مقتبسة من القوانين الوضعية، والاستثناء الوحيد الذي يمتح من المرجعية الدينية يتمثل في مدونة الأسرة الجديدة والثوابت الدينية التي تؤكد الشرعية السياسية للسلطات العليا والوحدة المذهبية والعقائدية للأمة، ولعل هذا ما جعل أحد التقارير الحقوقية الأخيرة لوزارة الخارجية الأمريكية التي رصدت واقع السياسة الدينية ببلادنا، تحسم بحصول تطورات إيجابية في احترام الحريات الدينية بالمغرب، مع تسجيلها بعض التحفظات المتعلقة بحظر التجمعات العامة لجماعة العدل والإحسان والأنشطة الدينية لبعض الجماعات السياسية.

1.    المسار التاريخي لتطور مؤسسات العلوم الدينية بالمغرب:
ونشير في هذه العجال
ة الفكرية و التاريخية التي تحتمها طبيعة الموضوع، إلى أن جامعة القرويين وعلماءها حافظوا على استقلاليتهم في بداية حصول المغرب على استقلاله، وفشلت محاولات الدولة إلحاقهم بجامعة محمد الخامس بالرباط، ورفضوا في الآن ذاته استخفاف الأحزاب السياسية بدورهم واستغلالها فقط لرمزيتهم، وفي سنة 1961 جاء تأسيس رابطة علماء المغرب برئاسة العلامة عبد الله كنون كتأكيد على هذه الاستقلالية، إلا أن الرابطة ظلت غائبة عن الحياة العامة، باستثناء تلك التوصيات التي تصدر عن المؤتمرات التي تعقدها، والتي لا تختلف في العمق عن مواقف الأحزاب السياسية، مما جعلها تكاد تكون منعدمة الحضور، رغم المكانة العلمية والحضوة الاجتماعية التي كان يتمتع بها عبد الله كنون.
وفي سنة 1964، وقبل دخول القصر في شبه قطيعة مع أحزاب الحركة الوطنية وإعلان حالة الاستثناء التي عرفها المغرب، تم الإعلان عن تأسيس معهد دار الحديث الحسنية بالرباط، وهي مؤسسة للتعليم العالي هدفها تكوين متخصصين في العلوم الدينية، ولكنها لم ترق إلى درجة خلق هيمنة معينة على التكوين الديني العصري آنذاك بالمملكة، وفي سنة 1967 جاء تأسيس جمعية خريجي المعهد الحسني، وكان من بين أهدافها هو إغناء الأنشطة التي تقوم بها الدار وتطويرها، على أساس خلق نوع من التوازن مع الأنشطة المتنوعة التي كانت تنجزها رابطة علماء المغرب وتأطير خريجي الدار تفاديا لبروز زعماء دينيين بينهم، يمكنهم أن ينهجوا سبلا سياسية معارضة.
وفي سنة 1979 ونظرا لإحساس الدولة بوجود فراغ إيديولوجي يمكنه أن يمس بها، وعدم توفر رابطة علماء المغرب على مواصفات قانونية تسمح لها بإصدار الفتاوى، فقد أخذت السلطات على عاتقها القيام بإجراءات عديدة من شأنها الرفع من المكانة الاعتبارية للعلماء، وانتهى الأمر في سنة 1981 بإصدار ظهير شريف ينص على إحداث المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية، ولا يزال هذا التشريع القانوني في مجال التدبير الديني قائما إلى اليوم، بل إنه أخذ منحى تطوريا ملحوظا.
ويثير بعض الأعضاء المنتمين إلى هذه المؤسسة الدينية نوعا من الجدل بين صفوف الدارسين والباحثين المهتمين بالشأن الديني، فقد ذهب الأستاذ الباحث محمد بوبكري في كتابه
القيم: “تأملات في الإسلام السياسي، الإسلام والعلمانية” ضمن الكتاب الأول، في سياق مناقشته للأخطاء العشر الكبرى التي ارتكبها الحاكمون بالمغرب في المجال الديني، وقامت بتوظيفها جماعات العنف الديني لخدمة أهدافها، إلى التأكيد في صياغته الأسلوبية عند تطرقه إلى الخطأ الثامن، على ما يلي: “إيواء الأفاعي السامة من قبل وزارة الأوقاف في “المجالس العلمية”، إنها مسؤولة عن خطاياها وأخطائها، فنظرا لتواجد الكثير من الأفاعي الإسلاموية في هذه المجالس، فإنها ستستغل موقعها الرسمي لتنفث سمومها الداعية لخراب الوطن، وإلى تكفير خصومهم، متسترة في كل ما تكتبه بستار رسمي يضفي على تخريبها للدولة والمجتمع حصانة، وعلى سمومها مشروعية … ” (ص:173) – الطبعة الأولى ماي 2007 .
وفي تقديري البسيط، فإن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد نزوع مصلحي لدى تيار معين، أو بتغلغل وإدماج العديد من الأسماء السلفية، نسبة إلى تيار “السلفية الوهابية” في المجالس العلمية التابعة للمجلس العلمي الأعلى تحت وصاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بل إن جوهر القضية قد يكون مرتبطا بتوزيع مواقع ومكتسبات، ومحاولة خلق توافقات بين تيار البوتشيشية وتيار التوحيد والإصلاح.
وهذا الاحتواء الإدماجي، سواء حدث قبل اعتداءات نيويورك في 11 شتنبر2001، أو خلال صدمة كارثة اعتداء الدار البيضاء الإرهابي في 16ماي 2003، أو ما بعد هذين المنعطفين الخطيرين، فإن إستراتيجية صناع القرار في المغرب، هدفها هو تشجيع هذه الأسماء وأتباعها لتشتغل في العلن، وتحت الأضواء الكاشفة، أو في إطار العمل المؤسساتي الرسمي البعيد عن دهاليز السرية والظلام، خاصة في إطار الصراع الذي ما فتئ يحتدم لهيبه بشكل خفي ومتوهج أثناء المناسبات، بين كل من علماء القطاع الديني المهيكل وعلماء الحركة الإسلامية
، إضافة إلى التحولات التي أدت لتطورات نجم عنها إشراك جزء هام من الحركة الإسلامية المغربية المعتدلة في تدبير الحياة السياسية العامة واندماجهم في حقل النظام السياسي المغربي .

2.    التدابير الجديدة في حقل الإصلاح الديني بالمغرب:
وقد ظهرت بعد16 ماي 2003، إطلاقات جديدة في القاموس الإعلامي والسياسي المتداول، مثل:”إعادة هيكلة الحقل الديني” و ” إصلاح المجال الديني” و “ضمان الأمن الروحي للمغاربة”، وهي مواصفات تهدف إلى ما ينبغي أن يكون، وهو ما شرعت إمارة المؤمنين في إنجازه بتدبير من وزارة الأوقاف، هذه الأخيرة التي قامت ابتداء من سنة 2009 في سياق الإصلاحات الدينية المتعلقة بتطبيق الشطر الثاني الذي أطلق عليه اسم “القرب” بالرفع من عدد المجالس العلمية المحلية من 30 إلى 70 مجلسا، إكمالا للشطر الأول الذي بدأ سنة 2004 تحت عنوان: “تأهيل الحقل الديني”، إذ لأول مرة تتمكن النساء من الحصول على التمثيلية في المجالس الجديدة المنتشرة فوق ربوع مدن وأقاليم المملكة.
كما أحدثت الدولة المجالس العلمية ابتداء من سنة 2008 للمغاربة المقيمين بأوربا، من أجل حمايتهم من الحركات الدينية التي تراهن على الاستقطاب وتوسيع قاعدتها السياسوية، ومن جميع أشكال الغلو العقائدي المتطرف والتيارات المذهبية الغريبة، وفي مجال الحياة الصوفية وحركاتها فقد بادرت الدولة إلى تشجيعها، وعملت على إحيائها وإبرازها في حلة جديدة، ويتعلق الأمر بكل من البوتشيشية والتيجانية وغيرها من الطرق والمشيخات التي لجأت سلطات التدبير الديني إلى إعادة هيكلتها.
ولا ندري إلى أي حد يمكن أن ينجح التصوف التعبدي بفلسفته وأخلاقياته في أن يكون ندا ومنافسا حقيقيا للحركات الإسلامية بمدها المتغلغل وقواعدها المساندة، كما أن الحركة الصوفية عرفت عبر تاريخها بالترفع عن الخوض في الحياة السياسية، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن حاضرة في قلب الحياة الاجتماعية ومشاكلها اليومية، فقد كان للمتصوفة مساهمات في الفلاحة والتجارة والفكر، وشاركوا بالإضافة إلى ذلك في استتباب الأمن من خلال تحكيمهم بين القبائل، في المناطق التي لم تكن في بعض المراحل من تاريخ بلادنا خاضعة للسلطة المركزية، كما أنهم كانوا يستجيبون عند ما يدعون من طرف الأمراء إلى المشاركة في تسيير شؤون الدولة.
ولا بد من الاعتراف هنا، بأهمية الإجراءات والخطة التي اعتمدتها وزارة الأوقاف في المغرب والتي ترمي بالأساس إلى إعداد تهيئة مندمجة وفعالة للشأن الديني، غير أنه من أجل تحقيق نتائج أرقى، يتعين أيضا الأخذ بعين الاعتبار جملة من البرامج ومناهج التعلم الديني، وإشاعة ثقافة الديمقراطية، والاقتناع بأسلوب الاختلاف في الحياة، وهي عوامل لا مندوحة عنها لإنجاح مشروع الهيكلة الدينية الجديدة.

3.    مؤشرات الإصلاح الديني الضامنة للانتقال الديمقراطي بالمغرب:
ومن المؤشرات الدالة في مجال الإصلاح الديني، القادرة على ضمان الانتقال الديمقراطي بالمغرب ، قيام الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، ابتداء من سنة 2006 بعدة مبادرات وخطوات إجرائية، وذلك من قبيل تناولها لملفات وقضايا لم يسبق أن أثيرت بالمرة على عهد رابطة علماء المغرب السابقة، مما جعل من الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب مضربا للمثل في عدد من المحافل الدولية، نظرا لقدرة المؤسسة على التفاعل المتجاوب مع القضايا الاجتماعية المعاصرة بنفس جديد.
وعلى سبيل المثال، فعندما أعادت الرابطة إصدار جريدة “ميثاق الرابطة”، أسندت رئاسة تحريرها لامرأة في سابقة على الأقل في المنابر الدينية وسط المؤسسات الإعلامية بالمغرب، ثم أسست مرصدا للقيم، وهي من المبادرات الحقوقية التي أكد على أهميتها المفكر المغربي المقتدر المهدي المنجرة في مؤلفه “قيمة القيم”؛ وجدير بالذكر أن موضوع التحولات القيمية من أبرز الملفات المسكوت عنها في مجال التداول الثقافي والإسلامي المغربي، وتتناولها فقط منابر الحركات الإسلامية من باب التحذير من مخاطر قيم الغرب، أو من زاوية التوظيف الإيديولوجي والسياسي لهذه التحولات.
وسيرا في نفس السياق التجديدي الذي دأبت على إتباعه الرابطة، فإنها من جهة أخرى أقدمت على تناول مشاريع توعوية وتثقيفية تتعلق بمرض “السيدا” بتنسيق مع برنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة “الإيدز” وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وأسست مركزين، أحدهما “للدراسات القرآنية” وهي سابقة مغاربية، والآخر حول “الدراسات والأبحاث وإحياء التراث” وتطرق علماء المؤسسة لأول مرة إلى فتح باب الحديث عن البيئة والإدمان والطفولة والشباب، ومعالجة ذلك من خلال مقاربات اجتماعية ونفسية معاصرة، مع الانفتاح على هموم ومشاكل الإنسانية.
على أن أهم مبادرة قامت بها الرابطة تحت إشراف أمينها العام الدكتور أحمد العبادي، هو تناولها لموضوعين في غاية الحساسية: “السيدا، ومجالات الصحة الإنجابية”، بتنسيق مع كل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبتعاون ودعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان…، وهي مواضيع لم تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا عن المجلس العلمي الأعلى، ولا حتى عن الحركات الإسلامية ذات المنظور الإسلامي الحركي والإيديولوجي المضاد والمعاكس لمشروع توجهات الدولة.

    والمؤشر الثاني يتمثل في الإصلاحات الهيكلية التي شملت المناهج والبرامج المعرفية والفكرية والتربوية- بالموازاة مع الجانب الفقهي والشرعي- التي أدخلت على دار الحديث الحسنية خلال سنة2004 ، إذ جاءت متزامنة مع خطة أمريكا الخاصة بالشرق الأوسط الكبير والدول المجاورة لها بشمال إفريقيا بشأن الإصلاح الديني والسياسي بهذه المناطق بعد أحداث 11 شتنبر 2001، وليس أدل على ذلك من تعيين العلامة والأستاذ أحمد الخمليشي على رأسها، وهو من الأطر الأكاديمية الذي يجمع في تكوينه بين التبحر في علوم الشرع والدراسات القانونية الحديثة والمعاصرة، وقد ذهب في إحدى الندوات التي عقدت بمدينة الرباط سنة2008 في موضوع التسامح بين الديانات السماوية إلى القول بضرورة مراجعة البرامج المدرسية بخصوص الآيات القرآنية الكريمة التي تحث على الجهاد، أو تلك التي تثير الرهبة والخوف في نفوس الناشئة الصغيرة عن طريق الوعيد بالنار، تأكيدا منه على تصور معرفي جديد، كممثل لمؤسسة علمية لها تاريخ حافل بالمغرب، وتجنبا لكل التمثلات الخاطئة التي يمكن أن تستبطنها النفوس البريئة، أو تنعكس سلبا على مسارها التربوي، كما أن دار الحديث في شخص مديرها تولي عناية كاملة للاجتهاد الديني والفكري المغربي، تراثا ودراسات، مساهمة منها في سد الفراغ المهول الذي تعاني منه بلادنا في هذا المجال.

    والمؤشر الثالث في مجال الإصلاح الديني الذي يؤدي بدوره إلى إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي، يتجسد في البناء المؤسساتي الذي أدرك عن قرب ما يمكن أن يتعرض له الحقل الديني من ضروب الفساد وآثار الانتهازية، لتنتهي الهيكلة والمأسسة القانونية في الحقل الديني المغربي إلى مجال التدبير المالي من خلال القرار الملكي بتأسيس حسابات لمراقبة أموال الوقف، وكان من بين آثار هذه التجليات الهامة إحداث آمرين مساعدين بالصرف على المستوى الجهوي، فأصبحت مؤسسة العلماء تتوفر اليوم على 17 آمرا مساعدا بالصرف بدلا من واحد، وتمت إقالة المسؤول المالي والإداري السابق بالكتابة العامة، وتعيين مسؤول جديد له خبرة إدارية ومالية كبيرة.
والمؤشر الرابع يحيل على أن ما يميز العهد الجديد كون أن جلالة الملك يميل إلى الإنجاز والفعل بصمت وتعال عن التفاصيل، وفي ضوء ضبط مؤسساتي وإجرائي للحقل الديني الذي عرف في الآونة الأخيرة تدابير إيجابية عديدة.

على سبيل الختم :
وأخيرا وليس آخرا، فإنه من أجل إنجاح الإصلاح الديني يستدعي الأمر تواجدا إمارة المؤمنين فوق كل الفاعلين الدينيين ومدبري الحقل الديني، من أئمة، جمعيات دينية، وتنظيمات سياسية دينية، دون الدفع بطرف إلى منحدر الانقراض والانسحاب، أو السماح له بالاستقواء والاستئساد، وفي نفس الوقت فإنه لابد من وجود معارضة
مؤسسة وأحزاب سياسية مؤدية لوظائفها في تأطير المواطنين عبر تعميق آلية الديمقراطية داخلها.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.