https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

سبتة السالبة !

كنال تطوان / المساء – سليمان الريسوني

أغلب المهربين الذين صادفتهم، أثناء مروري بمعبر باب سبتة الحدودي، كانوا يحملون بطانيات في أيديهم وقناني كحول تحت أحزمتهم. وأول محل تجاري يستقبلك، بمجرد اجتياز الجمارك الإسبانية، هو مخزن لبيع الخمور بالجملة، يديره شاب إسباني مُدوّر الشكل، بخدين أحمرين، مثل كرة الجبن الهولندي «Queso de bola».

لماذا نهرِّب الأغطية والكحول، هل نحن شعب بارد؟ لو أن شعبا آخر شرب من الجّين والفودكا والويسكي.. نصف ما يكرعه المغاربة يوميا من خمور سبتة المغشوشة، لكان أشهرَ «الخاوي»، سلاحا، في وجه المحتل الغاشم، ثورة عليه، ليذكـُر التاريخ ثورته تلك بـ»عيطة النشاط». لكن المغربي يسكر ويندس تحت البطانية حالِما بفتح الحدود مع إسبانيا الشقيقة، وفي الصباح تعود عليه «سخانة الراس بالبرودة» ولا يبقى له من الحلم والسكر سوى «الشقيقة» فيردد مع أبي نواس: «وداوني بالتي كانت هي الداءُ».

الدفء، مثل الصَّدَقة، يؤخر الثورة. وقد فهم غاندي هذه العلاقة، فقال لأتباعه: «حوايج النكليز يردوكم معاكيز». من يريد تحرير بلاده يجب ألا يلبس بذلات الإنجليز ويتغطى ببطانياتهم ويشرب ويسكيهم الأسكتلندي. هكذا كان أول ما قام به غاندي أن جعل من «الحايك» الهندي لباسا وغطاء له، تاركا محلات الإنجليز تذبُّ الذباب.

لم تنفع سياسة غاندي هاته في دحر الإنجليز، فحسب، بل كرست وسط الهنود ثقافة استهلاكية وطنية تقدس الاقتصاد المحلي، وتبدع في مجال الاقتصاد الاجتماعي التضامني، الذي جعل عالِم الاقتصاد الهندي-البنغلاديشي، محمد يونس، يحصد جائزة نوبل للاقتصاد في 2006.
في المغرب، أغلب السياسات التي تشرعها الدولة في مجال محاربة التهريب تنكسر على صخرة الفساد. هكذا يتم السماح، يوميا، لأزيد من 30 ألفا من المهربين المحملين بالسلع والمُهرِّبات الملفوفات بالأثواب، بأن يدخلوا المغرب، تحت أنظار رجال الجمارك والأمن المغاربة الذين يملؤون جيوبهم بالأوراق وأشداقهم بـ«الشكلاط» و«البيسطاش» ثم يشرعون في الصراخ في وجوه العابرين، قبل أن ينقلبوا على بعضهم البعض، مثلما حدث زوال يوم 31 دجنبر المنصرم عندما تقابل شرطي في ممر السيارات مع آخر مكلف بمعبر الراجلين وشرعا في سب بعضيهما سبا بذيئا وهاتكا للحياء على مرأى ومسمع من آباء يرافقهم أبناؤهم. ورغم كل هذه العربدة البوليسية، التي لا تخلو من افتعال، فإن المهربين يخشون مراقبة رجال الأمن الإسبان أكثر مما يخشون نظراءهم المغاربة، مع أن التهريب يُدرّ على الدولة الإسبانية أكثر من 600 مليون أورو في السنة، على حساب الاقتصاد المغربي.

خلال أول زيارة لي لسبتة، قبل سنوات، كنت أهمّ باجتياز الحدود عندما ترجّتني سيدة مسنة أن أساعدها على حمل رزمة من الرزم التي كانت تحملها؛ هكذا سرتُ وأنا أحمل حقيبة سفري الظهرية ومحفظة أضع فيها أوراقي وكتبي، ورزمة السيدة طبعا. وعندما وقفت أمام الشرطي الإسباني أشار إلى الرزمة البلاستيكية، فأخبرته بأنها للسيدة التي تقف خلفي فطلب مني أن أضعها أرضا، ثم التفت إليها، بعربية مكسرة: «بجّاف.. بجّاف».

هذه المرة، مررت دون أن أعبأ بنداءات امرأة طلبت مني أن أساعدها على حمل بطانيتين من «بطاطين» كانت تسندها إلى شباك الممر الحدودي، لكنها استطاعت أن تستدر عطف الشخص الذي كان خلفي، فكانت تمشي وهي «تقطر لي السم»: «ما بقاتشي الرحمة فبنادم.. باسم الله الرحمان الرحيم على بشر.. ما بقى إيمان، ما بقى إسلام»… كنت أسمع  خطبتها عن الإيمان والإسلام وأنا أتذكر جحافل «الأفغان» التي غزت مدينتي -القصر الكبير- أواسط الثمانينيات.. كانوا، في أغلبهم، تجار مخدرات جبليين استقطبتهم جماعة «الدعوة والتبليغ»؛ احتلوا سوق «رحبة الزرع» وحولوه إلى «سوق سبتة»، ثم ملؤوا محلاته بالسلع المهربة، فكانوا يقفون وسطها محشورين في قمصان أفغانية ممتدة إلى ما تحت الركبة وأفواههم محشوة بـ»سيكار» خشبي من نوع عود الأرك.

في هذه الفترة، رافقت صديقا، طبيب أسنان، إلى منزل أحد هؤلاء «المهربين الأفغان» لشراء كرسي طبي «Fauteuil dentaire».. سأله صديقي عن ثمن الكرسي، فأجابه بصدق صادم: اشتريته بمبلغ كذا، وقدمت رشوة لإدخاله من سبتة مقدارها كذا. وعندما رأى الرجل علامات الدهشة على وجهينا، استدرك موضحا: ضريبة الجمارك هي المكس، والحديث النبوي يقول: «لا يدخل الجنـّة صاحب مكس»!
مع هؤلاء المهربين، حاصرت المدينة،َ الأقدمَ في المغرب، أحياءٌ إسمنتية هجينة، وبعد أن كان القصر الكبير مكونا من ثلاثة أحياء وعشرات الشعراء والحدائق والمسارح، أصبح سوقا كبيرا. وكم كان يؤلمني أن يسألني أحدهم: من أي مدينة أنت؟ وعندما أجيبه: من القصر الكبير، يعلق: «آه.. سوق سبتة.. والسلعة ديال الشمال»، فأجيبه من أعماقي: «الله ينعلها سلعة».

أول أمس، وأنا أغادر سبتة فكرت في ما تسببت فيه هذه المدينة من اختلالات اجتماعية واقتصادية، وفي مقدار ما سلبته من قيم جميلة، وأنا أقول هذه مدينة سالبة، إلى جانب كونها سليبة.

رأي واحد حول “سبتة السالبة !”

  1. ياخي كلامك على صواب ولكن ماهو البديل كثرة البطالة واقليم تطوان كله ليس فيه لا فلاحة ولا معامل ولامطار ولاميناء ولا مركبات سياحية ولا ولا ولا ، سوى كثرة المقاهي والطكسيات وبيع سلاع الصين في الشوارع والارصفة من اين يكسب المواطن معيشه اليومي من كثرة الغلاء والكراء وشركة أمانديس اصبحت شريكة مع أي مواطن تطواني في مدخله اليومي بفواترها الباهضةالثمن ماهو المعمول لكي يتجنب المواطن مهزلة التهريب ؟

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.