https://www.facebook.com/MoroccoTravelAgencySARL

ثقافة الاحتساب والتَّطوُّع…في زمن التَّقنُّع

كنال تطوان / بقلم : د.يوسف الحزيمري

في زمن طغت المادة على عقلية بني البشر، وأضحى الدرهم والدينار غاية أفق النظر، أصبح المحتسب أجره على الله والمتطوع لخدمة عباد الله، يُنظر إليه في ظل هذا الطغيان المادي على أنه شخص مستحمر، يركب عليه الآخرون لقضاء مآربهم الدنيوية التي لا تتعدى المكان والزمان، ثم لا عليهم إن تركوه هملا شاردا وبحثوا عن مستحمر آخر في نظرهم لقضاء مآرب أخرى زائلة.

ومثل هؤلاء هم المتقنعون ذوو الوجوه المتعددة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه([1]، الذين يحبون الخير لأنفسهم ويمنعونه عن عباد الله، وما أكثرهم في عالمنا اليوم، ومثل هؤلاء أيضا هم القُطاّع في الأرض، الذين يقطعون أرزاق العباد بشتى طرق القطع المادية والمعنوية، غصبا أو نهبا أو استغلالا، أو وشايات كاذبة إن رأوا خيرا حجبوه أو شرا أذاعوه… وهنا تحضرني قصة يتداولها فقهاؤنا فيما بينهم في المجالس، وهي أن فقيها كان مهموما مغموما بسبب أن أحدهم ظلمه فقطع عليه مصدر رزقه، فقال له فقيه آخر يصبره بقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}[الذاريات:22]، فأجابه الفقيه المهموم بديهة: (وفي الأرض قُطَّاع…).

ونعود إلى ثقافة الاحتساب والتطوع، فهي ليست _ كما يتصور الذين استحوذ عليهم الشيطان فحجبهم عن ذوق حلاوة الإيمان _ هدرا للطاقات والقدرات المادية والمعنوية بلا جدوى، بل هي أعظم عبادة وادخار واستثمار يقوم به الإنسان المسلم في حياته، والذي يعود عليه بالربح الوافر في الدنيا والأخرى، وتُرى آثاره بالملموس إن عاجلا أو آجلا في نفسه وأهله ومجتمعه.

قال الشيخ ابن عجيبة الحسني عند قوله تعالى: “{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ}[الزمر:3]، هو ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد، اللهم إلا أن يكون بأمره، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته، فأطاعه، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ، يعني: أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر، إلا الفرد النادر، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله، شكراً، وإظهاراً للأدب، فإن قصد الاحتساب، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص، فلا يضر…”[2].

فهذا احتساب الأجر على العبادة، والتطوع لخدمة الناس المحتاجين واحتساب الأجر في ذلك على الله، وولاية الفقراء منهم من جملة العبادة وأفضل القربات، بل يصير في أوقات واجبا آكدا عينيا، وهذا من أخص فضائل الأنبياء عليهم السلام، حيث كانت ولايتهم لفقراء المؤمنين وضعفائهم ككبرائهم، وهذا ظاهر فيما رد به نوح – عليه السلام – على أشراف قومه إذ طعنوا على أتباعه ولقبوهم بأراذلهم في قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}[هود: 28/29]، … وناهيك في هذا الباب بسورة الأعمى “عبس” ففيها العبرة الكبرى لكل ذي بصر وبصيرة، ومن خصائص المسلمين الثابتة في الكتاب أن بعضهم أولياء بعض، ومن صفاتهم في السنة: “المسلمون ذمتهم واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم”، وأنهم “كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا”[3].

بهذا بني المجتمع الإسلامي وقامت الحضارة الإسلامية التي ما زالت قيمها التكافلية، تصارع التصورات المشوهة للأنانيين وتدحضها، وتزيل القناع تلو الآخر عن المتقنعين الذين لا يرحمون ولا يتركون رحمة الله تسري بين العباد،{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[الرعد:17]، صدق الله العظيم.

هوامش:

[1] موطأ مالك برواية يحيى بن يحيى الليثي، باب ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين، حديث رقم: 1797، (2/991).

[2] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، للشيخ ابن عجيبة الحسني (5/ 48).

[3] تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا (12/ 192).

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.